الثلاثاء 30 يونيو سيكون من الأيام المفصلية في السودان. ومثله مثل 30 يونيو العام الماضي، والذي خرجت فيه جموع كبيرة من الشعب تطالب بتكوين حكومة مدنية، فهو سيكون بدايةً لتغييرٍ مؤثر في الساحة السياسية. فما هو التغيير الذي ينتظره الشعب؟
ولنبدأ بالقول أن الشعب المقصود ليس هو هذا الحزب أو ذاك الناشط ذا الصوت العالي، وأن التغيير المطلوب ليس هو تعيين فلان والياً وعلان عضواً في المجلس التشريعي. فالشعب المقصود هو ملايين الناس في كل أنحاء البلاد: هو أولئك الذين يقفون في صفوف الخبز الساعات الطوال، وهو الذين لا يجدون قوت يومهم، والذين حبستهم الكورونا وضيق ذات اليد (فالمقتدرون يتحركون بسياراتهم ويحصلون على تصاريح المرور) حبستهم عن كسب الرزق اليومي البسيط، هم الذين لا يملكون أرصدة في المصارف، وهم الذين لا يهتفون لهذا الحزب ولا ذاك الزعيم إيماناً بشعارات هلامية، وهم الذين فوق هذا وذاك، يكدحون في الحقول ليوفروا لنا الطعام، ويدفعون من عائدات عملهم، ما تدعم به الدولة سكان الأبراج العالية، ورواتب الذين يجلسون في القصر ويركبون فارهات الدولة وبوقودها.
ما يريده الشعب هو تغيير المنهج والذهنية التي تدير الفترة الانتقالية. منهج التكالب على المواقع، واقتسامها بين بضعة أحزاب ميكروسكوبية، مشغولة بقضايا بعيدة تماماً عن اهتمام وأولويات الشعب. منهج البحث عن شماعات لتعليق الفشل والبحث عن تبريرات هتافية ديماجوجية، بدلاً عن البحث عن حلول عملية للمشكلات التي كلفهم الشعب بحلها.
ما يريده الشعب هو منهج حكمٍ متواصل مع الشعب في كل مكان، لا يحصر نفسه في حيٍ واحد من أحياء وسط الخرطوم، ولم يتمدد حتى للوصول لسكان الخرطوم نفسها، وغالبيتهم في الأطراف والأحياء الشعبية البعيدة. يريد الناس حكومة تستمد برنامجها وأولوياتها منهم، وتبحث عن الحلول بالتعاون معهم، وتشرح لهم ما يجري، وما يجب أن يكون، وتشركهم في اتخاذ القرار. ليس حكومة تتخذ أخطر القرارات، كقرار استجلاب بعثة الأمم المتحدة، دون مشاورة أو علم حتى مكونات الحكومة نفسها، وبإيعاز من سفاراتٍ أجنبية. ويريد الشعب حكومة نابعة من صفوف الناس، وليس قادمة من وراء البحار، تتكلم برطانةٍ مستوردة، وتولي الاهتمام الأكبر لقضايا هي آخر ما في هموم المواطن. المواطن يريد الكرامة وحفظ حقه. حقه في الحياة أولاً، وحقه في العدالة والمساواة، وحقه في التعبير، وحقه في المشاركة. المواطن يريد الوفرة في السلع، ويريد الوفرة في الخدمات الصحية والتعليم، مع جودة معقولة، ويريد شفافية في إدارة الخدمة العامة. وليس دخاناً كثيفاً من الشعارات التي تختفي وراءها المصالح الذاتية، مثل تعيين الأقربين في المواقع الدسمة في وزارة الخارجية مثلا، والادعاءات الكاذبة عن استعادة مليارات الدولارات من المال المسروق، التي اتضح في النهاية أنها بضع ملايين، مشكوكٍ في صحة إجراءات مصادرتها.
الشعب يريد حكومة يلتف حولها كل الناس. ليس حكومة فصيل أو فريق معين، تقف في ضفة السلطة والمال والجبرة، وتقف على الضفة الأخرى بقية فصائل الشعب، تلوك التهميش والإقصاء والعزلة وتعاني من القمع والقهر، وتمارس السلبية وربما المعارضة والتعطيل والتعويق. والشعب يريد حكومةً كما تم الاتفاق عليها فعلا، من كفاءاتٍ وطنيةٍ لا يجرمنها شنآن هذا الحزب أو الانحياز لذاك، أن تعدل بين الناس، حكومة تقف محايدة، وتؤدي دورها باقتدار وحنكة وخبرة بالعمل العام، والبروقراطية الأدارية السليمة، بدلاً عن حكومة النانشطين الذين لا يحسنون كتابة خطاب رسمي، ولا يعرفون الفرق بين مهام الوزير والوكيل والمدير، ولا يعرفون الفرق بين القانون واللائحة والأمر التنفيذي، ولم يمارسوا عملاً عاماً في حياتهم سوى الكتابة في الوسائط، في نقد الحكومات والأنظمة.
الشعب يريد بداية جديدة. إنطلاقة لثورةٍ حقيقية تغير الواقع البائس، تحشد الناس حول ما يجمعهم فعلاً، وتحشد طاقاتهم، وتقودهم بقيادة ملهمة، عالية الهمة، نحو الرفاه والكرامة الانسانية، وتحقيق الحد الأدنى من الرضا المجتمعي، والسلام القومي، والتوافق الوطني.
الشعب يريد مانديلا القادم من أعماق حي سويتو، ولا يريد أحمد الجلبي القادم مع جيش الغزو من أمريكا.