مبارك الفاضل يكتب :
لقد أهملت النخب الصفوية المتعلمة من اليسار واليمين في السودان قضايا البناء والتنميةوانشغلت بالصراع الايدولوجي الفكري ألمستورد، وظلت منذ ستينيات القرن الماضي تتصارع حول قضايا الاشتراكية، والعلمانية، وعلاقة الدين بالسياسة، والهوية السودانية واستخدمت في سبيل تطبيق افكارها المستوردة كل الوسائل بما فيها الانقلاب العسكري علي الديمقراطية، وجاءت الإنقاذ لتفجر بسياساتها الحزبية الضيقة هذا الصراع عندما كرست الاحادية الدينية والعرقية والاثنية وحولت الحرب الأهلية في جنوب السودان لحرب جهادية وصبغتها بالصبغة الدينية الأمر الذي فجر الصراع حول العلاقة بين الدين والسياسة، ودخلت فيه لأول مرة جوانب دولية اتخذت من سياسات الإنقاذ الاحادية مدخلا للتدخل في الشؤون الداخلية السودانية أدت الى دعم تقسيم البلاد وتحقيق انفصال جنوب السودان .
لقد شرعت النخب ذاتها مؤخرًا في اعادة الحديث عن فصل الدين عن الدولة بدلًا عن الانصراف لإعادة بناء الاقتصاد والتنمية وتأسيس استقرار سياسي في ظل نظام ديمقراطي يحقق السلام، والتنمية، والوحدة الوطنية مما حدا بنا لمخاطبتكم بهذه الوقائع التاريخية الهامة المسنودة بالوثائق كوني أحد المؤسسين الرئيسيين للمعارضة السودانية في مواجهة الإنقاذ في الخارج منذ يوليو عام ١٩٨٩ وموحدًا بينها وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان برئاسة زعيمها الراحل الدكتور جون قرنق في مارس ١٩٩٠، وأميناً عاماً منتخباً للتجمع الوطني الديمقراطي، وعليه احتفظ بكل الوثائق والمستندات التي مهرتها القوى السياسية السودانية التي يشكل معظمها الساحة السياسية اليوم في تحالف الحرية والتغيير وخارجه، ورأيت من المهم تمليكها لكم باعتباركم قادة للراى من موقعكم فى السلطة الرابعة وعبركم للشعب السوداني لمواجهة ووقف هذا الجدل القديم المتجدد حتى لا يصرفنا عن قضايا البناء.
في ١٣ أبريل من عام 1993 استطعنا في حزب الأمة ممثلا في شخصي مسئول العمل الخارجي، والأمين العام الراحل الدكتور عمر نور الدائم أن نتوصل لاتفاق تاريخي مع الدكتور جون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، والسيد بونا ملوال تم فيه حسم قضية علاقة الدين بالدولة،أعقب هذاالاتفاق بين حزب الأمة والحركة الشعبية دعوة بقية القوى الرئيسية في المعارضة السودانية المقيمة في القاهرة ونيروبي لاجتماع طارئ في يوم ١٧ ابريل ١٩٩٣ عقد بفندق الهيلتون نيروبي ترأسه الدكتور جون قرنق الذي قاد وفد الحركة وضم الى جانبه كل من القائد يوسف كوة مكي، والسادة القائد أليجا ملوك، دينق ألور، دكتور جستن ياك ، القائد نيال دينق نيال ، الدكتور منصور خالد ،الاستاذ ياسر عرمان،وتشكل وفد حزب الأمة من دكتور عمر نور الدائم ومبارك المهدي ونجيب الخير عبدالوهاب، بينما ضم وفد الحزب الاتحادي الديمقراطي الدكتور احمد السيد حمد، والسيد محمد عثمان محمد عبدالله، والدكتور فاروق أحمد آدم. ووفد الحزب الشيوعي المكوّن من السادة/ الأستاذ التجاني الطيب بابكر، والدكتور الشفيع خضر. ووفد القيادة الشرعية للقوات المسلحة ضم كل من: الفريق أول فتحي أحمد علي، واللواء الهادي بشرى والعميد عبدالرحمن خوجلي، الى جانب وفد اتحاد الأحزاب الأفريقية (يوساب )بقيادة اليابا جيمس سرور، وممثلي الحزب السوداني الأفريقي (ساك )بقيادة الدكتور والتر كوانجيوك،بالاضافةالى الأستاذ فاروق أبوعيسي، والأستاذ بونا ملوال كشخصيات قوميةللانضمام للاتفاق والتي قامت بدورها بدراسة المقترح والتأمين عليه وتم التوقيع عليه واعتماده في اعلان نيروبي، ومن ثم اعتماده ضمن مقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية 1995 تحت مسمى علاقة الدين بالسياسة،لقد جاء الاتفاق في ست نقاط على النحو التالي :
ان كل المبادئ والمعايير المعنية بحقوق الإنسان والمضمنة في المواثيق والعهود الإقليمية والدولية لحقوق الإنسان تشكل جزءاَ لا يتجزأ من دستور السودان، وأي قانون،أو مرسوم،أو قرار،أو اجراء مخالف لذلك يعتبر باطل وغير دستوري.( شكل هذا البند المادة ٢٧ من دستور ٢٠٠٥)
يكفل القانون المساواة الكاملة بين المواطنين تأسيساً على حق المواطنة واحترام المعتقدات والتقاليد، وعدم التمييز بين المواطنين بسبب الدين،أو العرق،أو الجنس،أو الثقافة ويبطل أي قانون يصدر مخالف لذلك ويعتبر غير دستوري .
لا يجوز لأي حزب سياسي أن يُؤسس على أساس ديني .
تعترف الدولة وتحترم تعدد الأديان وكريم المعتقدات وتلزم نفسها بالعمل على تحقيق التعايش والتفاعل السلمي، والمساواة، والتسامح بين الأديان وكريم المعتقدات، وتسمح بحرية الدعوة السلمية للأديان، وتمنع الاكراه ـو أي فعلـو اجراء يحرّض على اثارة النعرات الدينية، والكراهية العنصرية في أي مكان أو موقع في السودان.
يلتزم التجمع الوطني الديمقراطي بصيانة كرامة المرأة السودانية، ويؤكد على دورها في الحركة الوطنية السودانية، ويعترف لها بالحقوق والواجبات المضمنة في المواثيق والعهود الدولية بما لا يتعارض مع الأديان.
تؤسس البرامج الإعلامية والتعليمية والثقافية القومية على الالتزام بمواثيق وعهود حقوق الإنسان الإقليمية والدولية.
لقد تم تضمين النقاط الست التي وردت في إعلان نيروبي أبريل93 ومقررات أسمرا يونيو 95 حول علاقة الدين بالدولة في الباب الأول والثاني لدستور عام ٢٠٠٥ الانتقالي حيث أنها شكلت ركناً من اتفاق نيفاشاللسلام.وبذلك تم قفل هذا الباب نهائيا برضا واتفاق الجميع.
الآن طفت هذه القضية على السطح مرة اخرى في وقت نحن احوج ما نكون فيه الى الاتفاق وعدم الاختلاف والبعد عن السقوط في مستنقع هذه القضية مرة أخرى والتي ستأخذ الكثير من الوقت، وستبدد كل الجهود المبذولة لاعادة بناء السودان على أسس تكون مرضية للجميع والبعد عن التفرق والتشرذم.
لذلك مطلوب من القوى السياسية التاريخية أن تعيد التزامها بهذا الاتفاق التاريخي الهام الذي يشكل مدخلاً مهماً للسلام والاستقرار السياسي والبناء الدستوري في بلادنا، والمطلوب من الحركة الشعبية بقيادة القائد عبد العزيز الحلو أن تجدد التزامها بهذا الاتفاق باعتبارهاأحد مؤسسيه وقد وقعت عليه بواسطة زعيمها الراحل دكتور جون قرنق بحضور القائد يوسف كوة. بالاضافة الى أنه يلبي كل مطالبات الحركة الشعبية، ويؤمن التعددية الدينية والعرقية والإثنية، ويؤمن عدم استغلال الدين في السياسة، وكفالة حقوق المواطنة كاملة.
والمطلوب من القوى الجديدة التي نشأت بعد صدور دستور ٢٠٠٥ ان تختار ما بينالانضمام الى هذا الخيارالتاريخي والالتزام به لأنه تجاوز عقبة كؤود ظلت ملازمة للحركة السياسية منذ خمسينيات القرن الماضي او تقديم رؤاها للشعب السوداني عبر صناديق الاقتراع في الانتخابات القادمة حتى يتسنى للجميع التفرغ لبناء الوطن وتنميته الأمر الذي لا يتأتي إلا بتضافر جهود كل القوى السياسية والمجتمعية بالسودان.
إن استبعاد تحالف الحرية والتغيير لدستور عام 2005 أدى إلى عودة الصراع حول علاقة الدين بالدولة مرة أخرى بعد أن حسمته القوى السياسية قبل ربع قرن واصبح دستوراً للبلاد، لذلك ينبغي العودة سريعا للعمل به إذا ما أردنا ان نحقق السلامونمضي قدما في طريق البناء والتنمية خاصة وأن ذلك الدستور قد شاركت في وضعه معظم القوى السياسية وتم من خلاله معالجة كل القضايا الخلافية بعد أن يتم استبعاد المواد التي اضافتها اليه الانقاذ.
مبارك الفاضل المهدى
يونيو ٢٠٢٠