أرجو ألا يظن الناس أن كل هذه الثورة والحِرَاك والتغيير تمّ لأنّ سعر الخبز أصبح بجنيهين في عطبرة. أو لأنّ الناس أرادوا تغيير زيد بعبيد. لأنّ للثورة أهدافاً أسمى وأهم من سعر الخبز أو وفرة الغاز، رغم أهمية هذه الأشياء الضرورية في حياة الناس. تظاهرات الجوع قد تستمر يومين ويشترك فيها بضع مئات، وتنتهي بتوفير الخُبز والرجوع عن زيادة سعره. ولكن الحِراك الذي شارك فيه مئات الآلاف ودفع فيه البعض أرواحهم ودماءهم، واستمر شُهُوراً طويلة، لم يكن يهدف لتغيير الأشخاص، بل كان الهدف إحداث ثورة في السُّلوك وتغييراً في الممارسات، وتحسيناً حقيقيّاً في حياة الناس ومُستقبلهم، وتطويراً في هياكل الحكم وأساليب السياسة والإدارة العامة للبلاد ومُؤسّساتها.
يمكن القول إن خلاصة أهداف الثورة تتلخّص في حفظ كرامة وحقوق المواطن، وأولها الحق في الحياة. وتليه الحقوق الأخرى الأساسية، مثل الحق في المساواة أمام القانون، والحق في مساءلة الحاكم والعاملين في العمل العام، والحق في الحُرية والتعبير والمُشاركة والتنظيم، والحق في العيش في مُجتمع تسوده العدالة والسلام وسيادة حكم القانون.
ويُمكن أيضاً القول مباشرة إنّ أيّاً من هذه الحقوق لم يتحقّق بعد، رغم أنها ليست من الحقوق التي تتطلّب تمويلاً، ولا تدخُّلاً أجنبياً من الأمم المتحدة أو صناديق التمويل، ولا إلى زمنٍ طويلٍ حتى تتحقّق، مثل الإصلاح الاقتصادي مثلاً. كلا. إنها تحتاج فقط للإرادة السياسية، التي يظن الناس أنّها أكثر ما تتوفر في حكومة ما بعد الثورة، وتحتاج فقط للعقلية المُختلفة عن النظام السابق، والتي يظن الناس بداهةً أنّها قد تحقّقت بمُجرّد حدوث التغيير، واستيلاء القوى التي كانت معارضة، وكانت تهتف بهذه الشعارات وتقدسها، على الحكم.
استطيع القول وبثقة إن حق المواطن في الحياة، وهو أول وأبسط الحقوق، قد تعرّض للانتهاك في فترة ما بعد التغيير أكثر كثيراً مِمّا كان قبله. وهو أمرٌ مُدهشٌ ومُحزنٌ وغير مُتصوِّرٍ ولا مقبول. لقد قُتل في عملية فض الاعتصام ما لا يقل عن خمسة عشر نفساً في لحظة واحدة في صباح ذلك اليوم وفي ميدان الاعتصام نفسه، كما قُتل آخرون كثر في مناطق مُتفرِّقة من العاصمة والولايات الأخرى، تراوحت أعدادهم ما بين الستين والمائتين وثمانين، وفقاً لمختلف المصادر. والمؤكد أن القوات التي قتلت هؤلاء الشهداء لم تأت من خارج البلاد ولا من أعداءٍ مجهولين. وقُتل أثناء حظر التجوال الحالي شخصان كانا يستقلان “ركشة” في منطقة “أبو حمامة” في الخرطوم. لم يكونا مُسلحين ولا مُشتبهين ولا مُطاردين. وقُتل مواطن في شمال كردفان، منطقة “جريجح” الأسبوع الماضي برصاص رجل شرطة، دون أن يكون مُهرِّباً للمُخدِّرات ولا مُسلّحاً ولا مُطارداً، وهذه مُجرّد أمثلة بسيطة ليست للحصر.
يبدو أنّ المُشكلة ليست في النظام الحاكم، ولا في القانون، الذي يجرّم الاعتداء على النفس، ولا يُبيح لحاملي السلاح النظاميين أن يطلقوا رصاصهم على المُواطنين بالمزاج، وباستخفافٍ كاملٍ بحرمة الحياة، واستخفاف بالقانون الذي يمثلونه، والذي سمح له بحمل السَّلاح، وتلقي المُخصّصات والرواتب من مال ودم الشعب، لكي يقوموا بواجب حمايته وليس قتله.
يبدو أنّ المُشكلة هي في فلسفة وعقلية وتدريب هذه القوات. وهذا أمرٌ خَطيرٌ ويتطلّب تدخُّلاً عاجلاً.
هذه رسالة مني، باسم المُواطنين جميعاً، أطلب فيها من قيادة الشرطة والجيش، والقوات الأخرى التابعة لهم، أن تصدر اليوم قبل الغد، منشوراً وتعميماً مُشدّداً، وأن تعقد تنويرات عاجلة لكل وحداتها وقواتها في كل مكان، تُوضِّح فيه حُرمة حياة المواطن، وأنّه لا يُوجد أبداً في الدستور والقانون ما يُبيح لأيٍّ كان، أن يسلب مُواطناً حياته دُون إجراء قضائي مُكتمل. فحتى القاتل، لا يُقتل عشوائياً بمُجرّد القبض عليه، بل يُقدّم لمُحاكمة طويلة أمام قَاضٍ مُؤهّلٍ، وبعد إجراءاتٍ صحيحةٍ ومُكتملة، وسماع كل البيِّنات، ثم إصدار الحكم ومروره بعدة مراحل من الاستئناف والمراجعة والنقض.
ثُمّ أنّ على هذه الجهات التي تقود الشرطة والجيش، أن تراجع برامجها التدريبية لكل الفئات، بحيث تحتوي على برنامج واضحٍ ومُتكرِّرٍ وثابتٍ، يُركِّز على حق المُواطن في الحياة غير القابل للانتزاع ولا التّلاعُب ولا العبث. وتُركِّز على أنّ السلاح المَمنوح للنظامي، هو للدفاع عن النفس، ضد العدو المُسلّح، ولاستخدامات أخرى محدودة مثل التعطيل. ومن المعروف أن إفلات ألف مُطارد من القبض، هو أقل ضرراً بالمُجتمع من قتل برئٍ واحدٍ، وأن المُتّهم أصلاً برئٌ ما لم تثبت إدانته أمام القضاء، وأنّ المُواطن حتى حين يكون مُطارداً للاشتباه في ارتكابه جُرماً ما، فهو مُستحقٌ للحياة، وللمحاكمة العادلة.
لقد كان مُمكناً فض الاعتصام، مثلاً، بالقبض على المُعتصمين فرداً فرداً وتقديمهم للمحاكمة، إذا رفضوا الانصياع للأوامر بالانصراف من أمام القيادة، هذا عدا عن عشرات الوسائل الأخرى. لقد كان مُمكناً مُطاردة ركاب “الركشة” في “أبو حمامة” وركّاب السيارة في “جريجخ” حتى القبض عليهم، ثُمّ مُحاكمتهم بتُهمة عدم الانصياع للتعليمات بالتوقف، وهي جنحة لا تتعدى عقوبتها غرامة بسيطة، بدلاً من قتلهم كالأرانب.
لقد قتلت الشرطة الأمريكية مُواطناً واحداً، فثارت الدنيا كلها، وليس أمريكا وحدها. لقد تمّ حل وتسريح كامل قوة الشرطة في مينيابوليس، ولم تعد أمريكا ولا شرطتها، ولن تعود، كما كانت أبداً بعد تلك الحادثة. فماذا فعلنا نحن بعد مقتل العشرات في مكان واحد، ثم العشرات في حوادث مُتفرِّقة، تدل على سيادة نمط الاستهتار وسُوء استخدام السُّلطة والسِّلاح، وضعف التأهيل والتدريب، وعدم الانتباه من قِبل السُّلطات، لأهم أهداف الثورة ومطلوباتها؟