حققت ثورة ديسمبر المجيدة انتصارات تاريخية هائلة للشعب السوداني رغم المصاعب التي تواجه حركتها، ورغم التثبيط المستمر من العناصر التي لا تؤمن إلا بحقيقة أن هذه الثورة فرصة لتغيير ينبغي تجييره أو اعاقته وأن أسهل الوسائل لتحقيق ذلك الهدف هي تمكين الأفراد الأقل كفاءة، والأدنى معرفة، والأضعف التزاماً، والأكثر قابلية للفرد والطي والتطويع من رقبة الشئون العامة بحيث تصبح البلاد كلها مرهونة لآلية خارجية تقوم بتحريك الدمى المحلية. مؤسف أن يحدث هذا في بلد من أقدم البلدان الأفريقية والعربية نيلاً لإستقلاله.
صحيح هناك مصاعب كبرى، لكن بالمقابل هنالك اشراقات لا تخفى وبوابات واسعة للأمل في مستقبل جديد للبلاد. لغرض هذه المقالة سنركز على إحدى بوابات الأمل وهي استعادة المجتمع للصراع (بمعناه الإيجابي) في السياسة على أسس جديدة،ومتجاوزة للشروط التي صنعها نظام الإنقاذ المباد بالتواطؤ مع الطائفية السياسية ومن ضمنها الحزب الشيوعي السودانيوطبقة العائلات الكبرى والثرية.
***
منذ سيطرته على السلطة في انقلاب يونيو ١٩٨٩م، أمم حكم الإنقاذ الفضاء السياسي برمته، واحتكر ممارسة النشاط العام كله ولم يركز جهده على البرلمانات والحقل السياسي فقط، وإنما تمدد الى النقابات والنشاط التجاري والأهلي والرياضي والأدبي، وحتى اتحادات الفنون والغناء،ولم يتمكن الحركيون الجددمن تعلم أبجدية أن سيطرة القلة المسنودة ببندقية الدولة لا يمكن أن تبقى إلى الأبد. في سنوات العبث تلك عينت السلطات رؤساء الاتحادات الرياضية، ومنعت الأدباء والشعراء من تأسيس جمعياتهم، وسيطرت بالقوة على المؤسسات المدنية الموروثة منذ عشرات السنين.
***
في ظل ذلك المناخ المختنق لم يعد للناس من فضاء متاح للصراع إلا على أساس الدين والمذهب، وعلى أساس القبيلة والعشيرة وهما الصراعان اللذان فتكا متضامنين بمئات الآلاف من الأرواح السودانية الطاهرة. لقد كانت حرب الجنوب خليطاً من معارك دينية مذهبية عرقية وقبلية، بينما كانت حروب دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق وبدرجة أقل شرق السودان نزاعات مؤسسة على صراع العرق والقبيلة.
المشهد الآن مختلف كثيراً وبالرغم من ضعف المؤسسات السياسية والمدنية، وفسادها، وفساد قادتها، وانتشار المال السياسي، والعنف،واختطاف الدولة، فقد تراجع الصراع على الأسس العرقية والقبلية والدينية بدرجة كبيرة، وعاد للشعب السوداني تسامحه، وصار مقبولاً جداً أن يفتي الفريق أول محمد حمدان حميدتي، والفريق شمس الدين كباشي، و(الفريق) محمد الحسن التعايشي، والبروفيسور صديق تاور، والمحامي طه عثمان إسحق وهم جميعهم من أبناء الأقليات (السياسية) التاريخية التي كانت مستبعدة بشكل رئيسي من صناعة القرار، واقتصر وجودهم في هرم السلطة على واجب تزيينها، صار مقبولاً منهم الإفتاء في قضايا الوطن بشكل عام ومن بينها القضايا المركزية التي كانت حكراً على النخب وريثة الإستعمار، وهذا تطور كبير.
لقد حصل السودان على رئيس للوزراء من قرية نائية من جنوبي البلاد كان أقصى طموح أبنائها الإلتحاق بالجيش، أو الحصول على قدر هائل من المهارات لتغطية الفارق مع أقرانهم أبناء ولايات المركز الذين يعتمدون على رأسمال رمزي حصلوا عليه دون جهد بالميلاد. لم يحصل السودان بالطبع على العنصر الأفضل، ولكن الملاحظ أن هذه التجربة قد اعتمدت -بشكل ملحوظ ـ على الأقل قدرة وتأهيلاً باستثناء العسكريين الذين يعتمدون على مؤسسات قوية ذات شوكة وآليات متجاوزة للقبائل. هل هذه إرادة تحالف الرعاة (Patrons) الذين اسقطوا نظام البشير؟
***
احتكرت الإنقاذ والحركة الإسلامية الفضاء العام كله وتواطأ معها الحزبان الطائفيان التقليديان والحزب الطائفي الحديث نسبياً، وصنعت قياداتها فضاءات لسلطات موازية لا تنافس حكام الإنقاذ، لكنها تتمتع بنفس صلاحياتها وأكثر داخل (حواكيرها) السياسية الآمنة. هكذا احتفظ الإمام الصادق المهدي، ومولانا السيد محمد عثمان الميرغني، والراحل محمد إبراهيم نقد وخليفته (والدلالة مقصودة) السيد محمد مختار الخطيب على سلطات هائلة كل في حزبه تتجاوز السلطة التي كان يتمتع بها الرئيسالمعزول عمر البشير في حزبه أو حكومته.
***
لقد كان ناتج الذي يجري بين حكومة البشير من جهة والأحزاب الثلاثة من الجهة الأخرى أقوى وأكبر تحالف سياسي حكم السودان طوال الثلاثة عقود الماضية حيث اقتسم الطرفان الساحة السودانية بشرط أساسي هو عدم تدخل طرف في مساحة الآخر. استخدم الطرفان آليات متشابهة في القمع، والفساد، وقهر الخصوم، وحافظ جميع القادة على سلطة أوتوقراطية مطلقة كل في فضائه المخصص له، وفي ساعات التلاقي (السرية) كان حزب البشير يفتح خزائن الحكومة لتمويل أنشطة حلفائه الطائفيين مقابل ظهورهم في مظهر الخصوم. هل دفع حزب المؤتمر الوطني تمويلاً مالياً لخصومه السياسيين؟ نريد شاهد ملك يكتب مذكراته أو يسرب لنا بعض الوثائق لنطهر بها حياتنا السياسية.
***
قريباً سيعود الحزبان الطائفيان الرئيسيان إلى الحياة لأسباب كثيرة، وسيسطران على مقاعد البرلمانإذا جرت الانتخاباتولم تقم بعثة (يونيتامس) التي أقرها مجلس الأمن الدولي بطلب من رئيس الوزراء حمدوك بتغيير شكل الملعب، وشروط اللعب على الحكومة المقبلة، أما الحزب الشيوعي فسيبقى حزباً معارضاً كي يحافظ قادته على سيطرتهم عليه كمؤسسة اجتماعية، وطائفية،وإعاشية لا أمل في إصلاحها أو تطويرها. سيتم فصل كل عضو يقترح أي مشروع لتحويلها إلى حزب سياسي فوراً على النحو الذي فصل به الدكتور الشفيع خضر سعيد ومؤيدوه.
***
لكن ما ذنب الشعب السوداني كله ليخسر الفكر الشيوعي واليساري كله؟ وهل يملك الحزب الشيوعي السوداني توكيلاً حصرياً للماركسية اللينينية بحيث لا يمكن لأحد أن يستوردها إلا عن طريقه؟ أين الماويون،والتروتسكيون، والناصريون، والبعثيون،والبيرونيون (خوان بيرون) والمابيوريون (جون قرنق دي مابيور) وأين أنصار نيريري،ونكروما،وسامورا ميشيل، ومانديلا، وتوماس سانكارا،وأميلكار كابرال،وأغوستينونيتو،والعموميون الأفريقانيون؟ لقد حرمنا الإنغلاق على كلية غردون وبخت الرضا وهنا أم درمان وغناء الحقيبة و(نحنا ونحنا الشرف الباذخ) وملوك الطوائف من تجارب عظيمة كانت أمام أعيننا، وتجاهلناها تحت مزاعم أن الدم العربي يغني عن استخدام العقل وعن الفكر والمعرفة. هناك مساحاتعبر العقود خالية في الساحة السياسية السودانية وهي بحاجة إلى أحزاب يسارية قوية، وحركة توفر لها مظلة رحبة للتحالف.
من يمثل العمال والفقراء والمعوزين والمستضعفين والساعين إلى العدالة الاجتماعية الذين خذلتهم أحزاب اليمين الهشة وأحزاب اليسار التي باعت قضاياهم مقابل التمويل الأجنبي المدروس لمنظمات المجتمع المدني ووصل الحال أن أغلق حزب يساري كامل بعد فضيحة سيارة مستعملة حصل عليها زعيمه من سفارة يمينية في صفقة غامضة ومريبة؟
***
البلاد بحاجة إلى حزب يساري أكثر انفتاحاً على الجماهير وأقرب إلى نبضها بقيادة أكثر خبرة وأقل نخبوية ولعلي ألا اشتط إذا قلت إن الدكتور الشفيع خضر سعيد القيادي الشيوعي البارز سابقاً، واليساري المستقل حالياً هو أحد أكثر الشخصيات السودانية قدرة وتأهيلاً لإنقاذ التجربة اليسارية، واستعادة حلم الإشتراكية والعدالة الاجتماعية في السودان. يا عمال السودان وشرائحه المضطهدة انتبهوا: لم تسقط الأيديولوجيا بعد!
قضي الدكتور الشفيع ما يزيد عن الأربعين عاماً حركياً سياسياً بارزاً، ومثقفاً منفعلاً بقضايا الناس دون أن يحفل بتلويث سيرته بلقب حكومي. وبالرغم من التزامه التنظيمي فقد ظل منفتحاً أكثر من غيره في الحزب الصغير المنغلق على الأفكار المختلفة والتيارات السياسية المختلفة، ونال قبولاً شعبياً كبيراً حتى وهو ويتحرك أعزلاً من التنظيمات السياسية، ومسلحاً بالرفاق والمؤيدين غير النظاميين من حوله.
منذ أكثر من عشرين عاماً كان معروفاً أن بقاء الدكتور الشفيع في الحزب الشيوعي لن يستمر كثيراً فمنذ ندوته القاهرية التي أعلن فيها أن الحزب العتيق بحاجة إلى إعادة تأسيس جديدة لا يتخلص فيها فقط من اسمه وإنما ينهي بها احتكار الماركسية اللينينية كعماد فكري أوحد لصالح أعمدة جديدة تنفتح على اليسار العريض وعلى تطلعات الجماهير، كان قوميسارات الحزب في الغرف المغلقة ب(هوس التأمين) يرسمون الخطوط ويبنون الحوائط بينهم وبينه في انتظار مناسبة مواتية.
عند تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي الذي كان أكبر مظلة سياسية وعسكرية معارضة لنظام الإنقاذ أختير عضواً في المكتب التنفيذي، وتولى حقيبة التنظيم والتعبئة، وقدم تجربة قوية في تأسيس الفروع وترتيب الصفوف أجهضها الحفر المتصل والتخريب المتعمد من الحلفاء الخصوم.
وبعيد انعقاد المؤتمر الثاني للتجمع في سبتمبر ٢٠٠٠م بمدينة مصوع الإرترية فوجيء الحلفاء بسحب الحزب الشيوعي لترشيحه في هيئات التجمع، وهو أمر تقول بعض مصادر الحزب الشيوعي أنه تم بناء على مذكرة مكتوبة من الدكتور خضر نفسه يطلب فيها اعفاءه من تلك المهمة في التحالف العريض لكن أدت ضغوط من مجموعة من القوى الرئيسية للتجمع علىضرورة الإستفادة من تجربته وفكره وطاقاته في مقعد صنع خصيصاً له باسم العضو المناوب في هيئة القيادة وكان مقعداً محدداً بالإسم له بحيث لا يمكن تحويله إلى شخص آخر بالأصالة أو بالإنابة.
أبلى الدكتور خضر بلاء حسناً في تلك المهمة وكان من الوجوه الرئيسية التي مثلت التحالف في جبهات العمل السياسي والإعلامي والدبلوماسي.
عندما اقترب الدكتور الشفيع خضر من مقعد زعيم الحزب الشيوعي السوداني أخرجه الرفاق من المنظومة كلها مفصولاً كأنه موظف خرق اللائحة وكشف الحزب عن سوأته كمنظومة بيروقراطية اعاشية منغلقة على الذات ورافضة للتطور والانفتاح.
كل أسبوع يقدم الدكتور الشفيع مرافعة محكمة تتناول إحدى القضايا الرئيسية والهامة في حاضر بلادنا ومستقبلها السياسي دون أن تتجاهل قضية مهما بلغت درجة حرارتها أو حدة الاستقطاب بشأنها سواء كانت تلك القضية دور الجيش في السياسة، أو العلاقات مع إسرائيل، أو اصلاح المنظومة الأمنية، أو ترتيبات الإنتقال إلى نظام شرعي ومتوافق عليه للحكم أو طرح نظرية جديدة للعلاقات الخارجية للسودان على أساس استبعاد الأيديولوجيا واعتماد فكرة المصالح. لعل أهم ما كتب الدكتور خضر في مساهماته الأخيرة مقاله عن المساومة التاريخية التي أوضح جوهرها في “معالجة جذور الصراع السياسي والاجتماعي وعدم الاستقرار في السودان” وعدم اختزال ذلك الصراع “في مجرد النزاع حول السلطة، أو التناقضات بين المركز والأظراف، أو الصراع بين العلمانيين والإسلاميين، وهو لن ينته بمحرد تغيير الأنظمة، مثلما لم يحسم بإنفصال الجنوب” وهو ما يقول إن سببه الرئيسي “ناتج من غياب المشروع الوطني المجمع عليه، والذي يجيب على أسئلة التأسيس لبناء الدولة الوطنية في السودان” (القدس العربي ٣١ مايو ٢٠٢٠م).
***
هذه مناسبة لأن نحيي الدكتور الشفيع على مساهماته الكبيرة في حياتنا السياسية والفكرية عبر هذه. المقالات التي ظل ينشرها بانتظام ويتناول فيها قضايا الساعة من زوايا نظرية تفتقدها تعليقات صحافتنا، وعبر المؤتمرات، وورش العمل،والسمنارات، والندوات، والنشاط الإعلامي والحركي المكثف، لكن كثيراً من السودانيين يأملون في تصديه لتجربة جديدة يؤسس فيها حركة سياسية جديدة تملأ فراغ ساحتنا، وتستوعب طاقات الكثير من شباب الجيل الجديد الزاهد في المواعين الحالية، والرافض لقيادة الزعماء المتكلسين على مقاعد الدكتاتوريات الموازية للحكومات.
نتطلع كثيراً لأن نرى حركة سياسية يسارية سودانية ناهضة ونتطلع أن نرى فيها الدكتور الشفيع خضر كزعيم جديد عوضاً عن كونه قيادي شيوعي سابق.