بقلم:صلاح عبدالله
استمعت إلى خطاب نائب رئيس المجلس السيادي الفريق أول محمد حمدان دقلو الضافي الواضح بمدينة كادقلي، الذي وضع فيه الحروف على النقاط، ونقول له تحدّثت كعادتك بشفافية نادرة وعالية تغيب عن الكثيرين من أرباب السياسة.. وما ذلك إلا لأنك رجلٌ نقيٌّ طاهر السيرة والسريرة، لا تعرف الدهنسة والغتغيت كما ظللت دئماً تُردِّد هذا التعبير، منذ أن اتّخذت قرارك العظيم بالانحياز للثورة في أحرج موقف كانت تقفه، وكل القلوب كانت معلقة لسماع صوتك وتبيان موقفك من الثورة، فأخمدت الفتنة وحقنت الدماء في ذلك الموقف التاريخي الذي لن ينساه الشعب السوداني، رغم أنف المُكابرين والساخطين، والذين كانوا يتربّصون بك الدوائر وإثارة اتهامات باطلة في حقِّك وحق قوّاتك الباسلة، التي أثبتت وتثبت كل يوم أنّها قوّاتٌ مملوءةٌ بالوطنية وحُب الوطن.
ما أعظمك ايها القائد المؤمن وأنت تُخاطب شعبك بهذا الحديث الرائع: (موت ولدي ولا خراب بلدي)، نعم إنه أنت الذي تؤمن بصدق بهذه المقولة.. أنت الذي ظللت تتحمّل كافة الاتّهامات والأذى، وأنت صامد كالجبل، صابر كصبر الإبل التي أرضعتك من ألبانها فغذّتك بخاصية الصبر الجميل.
بالأمس شعرت وأنت تُخاطب الأمة بهذا الخطاب الواضح الصريح، المُفعّم بالحُزن والألم، الذي كتمته في جوفك وكظمت الغيظ، وأنت ترى جُنُودك بين قتيلٍ وجريحٍ ومُعاقٍ، ولكنك لم تشأ أن تنتقم لنفسك، وطالبت الأمة وجميع فئات الشعب بنبذ القبلية والجهوية والصبر والصبر والصبر.. كرّرتها عدة مرات، لأنّك تعلم أنّ الصبر على الأذى وإزهاق الأرواح لا يستطيعه إلا الأنبياء والنبلاء.
كان خطابك تشخيصاً للعلة وللمرض الذي لازم هذه الثورة، والتي لم تستطع التجاذُبات السياسية والأجندة الخفية أن تعبر بالبلاد إلى بر الأمان وخلق بيئة سياسية صحية خالية من الأحقاد وروح الانتقام، ها أنت ذا تنقر على ناقوس الخطر، وتحدد بصراحة وشفافية تحسد عليها مواضع الداء، وتُعلن للملأ أنك سعيد بالاجتماع الأخير الذي خرجت منه وأنت راضٍ بنتائجه، صادق فيما تقول، فما عهدنا فيك غير الصدق والأمانة والإخلاص وحُب الوطن والتضحية من أجله بالروح والمال والأبناء، ولكنك ولصدقك وحسِّك المُرهف قلت بصراحة ووضوح إنك تطلب من الجميع الذين كانوا معك في الاجتماع الصدق وحُسن النوايا والالتزام بقرارات ذلك الاجتماع.
أشهد الله أنك قد بلّغت الرسالة، وأدّيت الأمانة، وألزمت كل جهة طائرها في عنقها. لقد كُنت أنت ولا تزال تقف على مسافة واحدة من كل القوى السياسية، لم تستطع أي قوى أن تجذبك لتنحاز إليها لتحقق عن طريقك أهدافها السياسية.. كان وما زال، وسوف يظل همّك الأساسي هو الوطن أولاً والوطن ثانياً واخيراً.
لقد أبرزت هذه القيمة الوطنية والأخلاقية والدينية في كل خطاباتك السابقة، ولكنك اليوم وبهذا الخطاب المفصلي والعظيم والذي تحدّثت فيه كعادتك وسجيتك وصدقك المعهود وصراحتك التي لا يحتملها الكثيرون، فقد ارتفعت بقامتك اليوم إلى المراقي العليا للوطنية الصادقة (موت ولدي ولا خراب بلدي)، يا لها من جملةٍ بسيطةٍ في أحرفها، كبيرة في معانيها وهي تأتي من رجل يذرف الدمع السخين على الضحايا من أبناء الوطن الذين غدر بهم على مرأي ومسمع، كأنك تقول الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها، هذا الخطاب المفصلي في تاريخ البلاد وفي هذه الظروف الحرجة، وأنت تقول بصراحة وشفافية، إنّ البلاد مستهدفة داخلياً وخارجياً، عسى أن يرعوي أرباب السياسة وطلاب السُّلطة وأصحاب الأجندة الخفية ويحرصون على البلاد ويتقوا الله في وطنهم ويستجيبوا لندائك الحار للالتفاف حول راية الوطن أولاً وثانياً وأخيراً.
فليحفظك الله أيُّها القائد المُبجّل ويزيدك قوةً ومنعةً في الصبر على المكاره حتى تعبروا بالبلاد إلى بر الأمان، وتسليم الأمانة إلى من يختاره الشعب بحُر إرادته في انتخابات حُرّة ونزيهة، وسوف يُسجِّل لك التاريخ هذا الخطاب العظيم.. وليس لي ما أختم به هذه الكلمة إلا الاستعارة من قصيدة المحجوب في رثاء الإمام عبد الرحمن المهدي: فأنت الواهب المظالا لا مناً يكدره وأنت الصادق الوعدا لا ميناً ولا كذب.