البعثة الأممية في السودان: هل مكتوب عليها الفشل؟
مقالي هذا هو مجرد تعقيب مقتضب على مقال مطول، للكاتب المرموق محمد عثمان إبراهيم (مو)، بعنوان “مهمة فاشلة مقدما: بعثة الأمم المتحدة للسودان!”، بهدف إثارة النقاش وإثراء الحوار حول هذه القضية المحورية في ظل أوضاع انتقالية مضطربة. في الجزء الأول من المقال، استعرض مو بعض تجارب البعثات الأممية في عدد من البلدان التي، في رأيه، اشتركت جميعها في الفشل الكامل في أداء مهامها، من جهة، وتكليف الدول الأعضاء بنفقات باهظة بدون مردود مفيد لها، من جهة أخرى. بل، أن جميع تلك البعثات اتفقت على تدخلها السافر في إرادات المواطنين وحياة المجتمعات، وتورطت قواتها العسكرية في كوارث اجتماعية وفضائح أخلاقية. وعليه، خلص مو في هذا الجزء من المقال إلى الحكم بالفشل الحتمي لبعثة الأمم المتحدة التي طلبتها الحكومة الإنتقالية. بينما خصص مو الجزء الثاني من المقال لتحليل وافي لتداعيات دخول البعثة الأممية إلى السودان على الترتيبات الانتقالية، خاصة أنها ستزيد من الشقاق غير المعلن، أو المواجهة المؤجلة بين الجيش وقوات الدعم السريع، بينما هناك ضرورة ملحة للتحالف وإعادة تنظيم العلاقة بينهما. وفي هذا السياق، قدم مو مرافعة في حق قوات الدعم السريع ، وقائدها، والتي، في رأيه، ستكون هدفا للقوات الأممية ونخب الخرطوم المتحالفة مع المصالح الأجنبية.
الخلط بين المفاهيم!
يبدو أن مو يخلط بين مفهومي حفظ السلام وبناء السلام، من جهة، وبين الفصلين السادس والسابع، من جهة اخرى. فهو يستخدم تعبير “بعثات حفظ السلام” التي اصدرها مجلس الأمن بموجب الفصلين السادس والسابع بالتبادل، ولم يشر مطلقا الى “البعثات السياسية الخاصة”. ذلك، بينما كل الأمثلة التي أوردها هى تجارب لبعثات حفظ السلام، التي تتبع لها قوات عسكرية، تقع مهامها وتستمد صلاحايتها تحت الفصل السابع! للمفارقة، أن مو لم يشر إطلاقا إلى تجربة، خارج نطاق قوات حفظ السلام، كنا كلنا شهودا لها قبل سنوات! فوفقا لقرار مجلس الأمن 1590، تم تأسيس بعثة الأمم المتحدة في السودان (UNMIS) في 24 مارس 2005، بغرض دعم تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، وذلك بأداء مهام معينة تتعلق بالمساعدات الانسانية، حماية وتعزيز حقوق الانسان. وقدمت اليونميس مشورة ودعم سياسي لطرفي الاتفاقية، من خلال ولايتها وعبر وجودها في مفوضية التقدير و التقييم لاتفاقية السلام الشامل، كما تابعت المنظمة الأممية وتحققت من سير الترتيبات الأمنية، كما قدمت المساعدة الفنية في مجالات أخرى كالحوكمة والتنمية.
انتهى تفويض البعثة في 9 يوليو 2011 مباشرة بعد نهاية الفترة الانتقالية، فلملمت أطرافها وغادرت دون تلكؤ أو تذرع. وبعد خروج اليونميس، تم تكوين بعثة سياسية خاصة للسودان سميت: “مكتب المبعوث الخاص للسودان و جنوب السودان”، وسمي هايلي منقريوس مبعوثا خاصا. كانت مهمة المكتب والمبعوث مساعدة للدولتين عبر آليات الامم المتحدة وعبر الآلية الأفريقية ومنظمة الإيقاد للتوصل إلى حل حول ترتيبات ما بعد الانفصال ودعم مفاوضات السلام في المنطقتين. هكذا، تم التوصل لاتفاق بين السودان و جنوب السودان في 27 سبتمبر 2012، ما عرف باتفاقيات التعاون. كم ساهم المكتب في التوصل للإتفاق الإطاري المشهور ب “اتفاق نافع-عقار، في يونيو 2011.
وكما في حالة يونميس، انتهت مهمة “البعثة السياسية الخاصة”، مكتب المبعوث الخاص للسودان وجنوب السودان، في اكتوبر 2018, وغادرت البعثة البلاد، وأحيلت مهامها الي ما يعرف الآن ب “مكتب المبعوث الخاص للأمين العام للقرن الأفريقي”. لذلك، مثلا، يكمن اقتراح ان لا تزيد مدة البعثة السياسية الخاصة المرتقبة عن 5 سنوات، وستخضع للمراجعة والمتابعة. فإن جاء التقييم سالبا عن أداء البعثة بمهامها، لا يجدد تفويضها وتغادر البلاد!
يختم مو الجزء الأول من مقاله بالتأكيد على عدم نجاح “أي بعثة أممية للسلام في العالم في تأسيس حكومات ديمقراطية أو حكم مدني أو استبعاد الجيوش من الحكم”، بحد قوله. وبينما أشار إلى أنه رغم إشادة بعض الدارسين والمراقبين إلى ليبريا كتجربة ناجحة، إلا أن مو يعد مثل هذا الحديث “مخز وكاذب وفيه قدر كبير من التضليل”. لا أرغب الخوض في هذا الجدل، فنقرة على محرك قوقل تخبر المرء بالأمر، إضافة إلى أن البعثة المرتقبة في السودان أصلا غير مطلوبة منها “تأسيس حكومات ديمقراطية أو حكم مدني أو استبعاد الجيوش من الحكم” ومع ذلك أجد نفسي متفقا تماما مو في مناهضته ورفضه لتشكيل بعثة على غرار بعثة ليبيريا، دون أدنى مناقشة، بحسب قوله. فتجربة ليبريا لا علاقة لها بالنزاعات السودانية، وطبيعتها مختلفة تماما عن ما يطلبه رئيس الوزراء الذي يدعو ل “بعثة سياسية خاصة من الأمم المتحدة” (SPM) وهي أحد آليات المنظمة الدولية في منع حدوث النزاعات والمساعدة في حلها، إضافة إلى المساهمة في بناء السلام المستدام.
وعلى كل حال، إذا القينا نظرة فاحصة على الأدبيات المبذولة في الكتب والأسافير حول تقييم أداء البعثات الأممية، على اختلاف طبيعتها ومهامها وصلاحياتها، لا يمكن التوصل إلى نتيجة قاطعة بأن كل تجارب البعثات الأمنية فاشلة على إطلاقها هكذا.
طبيعة البعثة الأممية
أشار مو في صدر مقاله إلى الجدل المحتدم هذه الايام حول “طلب رئيس الوزراء بشكل فردي ودون حوار داخلي مع أطراف السلطة”، على حد تعبيره، مما قاد إلى استقطاب قوامه معارضة قوية من الجيش وبعض القوى السياسية. بل وذهب مو إلى خلاصة ثقيلة الوزن والعيار مفادها أن قبول قدوم البعثة الاممية الخاصة يعني “نهاية عهد الدولة الوطنية في السودان”. لكن، إن كان الأمر كذلك، إذن فعهد الدولة الوطنية قد قضى نحبه منذ دخول قوات اليوناميد المشتركة تحت الفصل السابع في يوليو 2007.
صحيح أن رئيس الوزراء أرسل خطابا، من أربع صفحات، إلى الأمين العام لمجلس الأمن، في 27 يناير 2020، بدون استشارة الشركاء في السلطة بطريقة مباشرة، ولو أن معلوماتي تشير إلى علم رئيس مجلس السيادة ونائبه بالأمر. وفي مقال سابق، أرجعت سبب الهجوم الذي شنته بعض الكيانات في أعقاب تسريب خطاب رئيس الوزراء، إلى غموض طبيعة العلاقة، بغض النظر عن نصوص الوثيقة الدستورية، بين مؤسسات الانتقال، من جهة، وشروط وظروف عملية إتخاذ القرار، من جهة أخرى. وأكدت أن أمر استدعاء البعثة الأممية السياسية الخاصة يستدعى التوافق السياسي بين كل أصحاب المصلحة (الواثق كمير، في حق رئيس الوزراء!، سودانايل، 11 فبراير 2020).
ولكن، على إثر ذلك كله، تم اخضاع الخطاب إلى حوار ومشاورات مع مجلس السيادة، لقرابة الشهر، تم خلالها التوافق على أهمية دور الأمم المتحدة في تحقيق أهداف الفترة الانتقالية. وفي 27 فبراير، أرسل رئيس الوزراء خطابا آخر إلى الأمين العام للمنظمة اللأممية. وبالتالي، استقر أمر “الحكومة الانتقالية”، بمجلسيها وشقيها المدني والعسكري، حول الدعم المطلوب من الأمم المتحدة الذي حدده الخطاب في ثمانية مجالات من صميم صلاحيات البعثات الأممية لبناء السلام:
- دعم مفاوضات السلام الجارية؛
- المساعدة في تعبئة الدعم الاقتصادي الدولي؛
- تنسيق وتسيير المساعدات الإنسانية، ودعم جهود بناء القدرات وإصلاح الخدمة المدنية؛
- الدعم التقني والمادي لعمليات نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج .(DDR)
- المساعدة في تعزبز ما تحقق من مكاسب في دارفور والمنطقتين من خلال جهود بناء السلام؛
- دعم عودة النازحين واللاجئين وإعادة دمجهم مع تحقيق المصالحات الاهلية؛
- المساهمة في الانتقال من مرحلة العون الانساني إلى دعم برامج التنمية المستدام؛
- توفير الدعم لعمليات الإحصاء السكاني والإنتخابات.
وبذلك، لا تتضمن المطالب الثمانية أي دعوة لقوات، بغض النظر عن كونها عسكرية أو شرطية، على الإطلاق. كما أنه من المستحيل أن يأذن لقوات مسلحة، بدخول البلاد بدون موافقة مجلس السيادة (يقرأ المكون العسكري). ولكن هذا كله لا يمنع أن يكون للدول الكبرى مواقف مختلفة. فلربما تقف روسيا والصين مع مدنية البعثة، لكن بريطانيا والمانيا وأمريكا يرغبوا في وجود قوات لحماية معسكرات النازحين بدارفور. وفي تغريدة له، بعد قرابة الشهر من الخطاب الثاني من رئيس الوزراء، نوه السفير البريطاني في الخرطوم، عرفان صديق، إلى أن تسريب ونشر نسخة من مسودة قرار تعمل عليها بريطانيا وألمانيا تسبب في توجيه اتهامات مكثفة للحكومة السودانية. وبغرض التوضيح، غرد السفير بأن النسخة المسربة لا تعدو أن تكون مسودة أولية، وتعكس التفكير الداخلي لبريطانيا وألمانيا. بل، ولم يتم طرحها أصلا على حكومة السودان، مما يعني أن المسودة لا تعكس وجهات نظر الحكومة أو تجد دعمها. والأهم، أنه لم يصدر قرار بعد من مجلس الأمن، بل التفاوض يجري على قدم وساق، بين الحكومة السودانية ومجلس الأمن والأمانة العامة، بحثا عن صيغة مثلى مع طلب الحكومة الإنتقالية، بشقيها، حتى يتم التوافق في المجلس.
ففي رايي، أن أي خلاف مع، أو انتقاد او هجوم على طلب استقدام البعثة الأممية، ينبغي أن يوجه لكل الحكومة، ورئيس مجلس السيادة على وجه الخصوص، وأن لا يكون رئيس الوزراء فقط هو الهدف والمستهدف. هذا التوجه يحث على الاستقطاب ويزيد من حدة التوتر السياسي بين الشركاء، ويضع العصى في دواليب عملية الانتقال السلمي، مما قد يفضي إلى أوضاع لا تبشر بخير للبلاد والعباد.
تداعيات البعثة على عملية الانتقال
وعلى فرضية أن بعثة “الإسناد” الأممية التي طلبتها الحكومة الانتقالية هي بعثة قوات حفظ السلام، انتقل مو في الجزء الثاني لمقاله لكشف تداعيات هذا القرار على مستقبل عملية الانتقال والبلاد بأسرها. يرى مو أن أول هدف لبعثة الأمم المتحدة هو استبعاد قوات الدعم السريع وقائدها من المعادلة السياسية عبر “عملية بطيئة ومعقدة تضمن خروج الجيش التقليدي بعدها مرهقاً وضعيفاً ليعاد تشكيله من جديد كحارس للسلطة الاستعمارية الجديدة”. وفي هذا السياق، قدم مو مرافعة في حق قوات الدعم السريع وقدراتها لتكون “حارسة للفئات الناهضة حاليا والمحرومة والمستبعدة منذ نشوء الدولة الوطنية”، وينبه قائدها الفريق أول حميدتي إلى ضرورة الإدراك بأنه يمثل بعض قوى المستقبل في الواقع السياسي السوداني. وبدوره، يستدعي القيام بدور الحارس أن تنفتح قيادتها على أقاليم السودان المختلفة، والتأسيس النظري لمنهج عملها ومشروعية بقائها، دون تعويل كامل على القوة العسكرية فقط.
وعلى هذه الخلفية، يخلص مو إلى أن قدوم البعثة الأممية سيزيد من الشقاق غير المعلن، ويستعجل المواجهة المؤجلة، بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، والتي هي بمثابة “جيش وطني وطني تأسس بشكل تدريجي لمهام خاصة لمساعدة الجيش التقليدي”. لذلك، يدعو مو إلى أهمية الوصول إلى “صيغة مثالية للعلاقة بين الجيش التقليدي والدعم السريع في السودان”، فهي الضمانة الأكبر لحماية البلاد من الانقلابات العسكرية والحفاظ على مؤسسسة ثابتة للحكم.
كنت أتمنى أن يفرد مو لهذا الجزء مقالا منفصلا كامل الدسم عن المواضيع الجوهرية التي تتصل بعملية بناء دولة تحرسها وتحمي وجودها قوات مسلحة وطنية متماسكة، ولو تعددت أفرعها. فأنا أجد نفسي متفقا مع مو على ضرورة التوصل لصيغة مثلى بين الجيش وقوات الدعم السريع. كما ينبغي أن لا نغفل عن قوات هيئة عمليات جهاز المخابرات، والتي لا يقف علي ذكرها الكثيرين. وذلك، بالرغم من قيامها بتمرد مسلح داخل العاصمة وفي بعض الولايات قبل عدة اشهر، والتي صدر قرار بحلها و ادماج منسوبيها في القوات النظامية، بينما يتردد مؤخر حديث عن تعديل القرار والعمل علي تحويلها لقوات خاصة لمكافحة الإرهاب. ولكن كل ذلك، عليه أن يتم ضمن عملية ترتيبات أمنية شاملة وإعادة هيكلة المؤسسات العسكرية في اطار اصلاح القطاع الأمني، وعلى أن يتم ذلك في إطار ترتيبات أمنية شاملة. وهذه بدورها، لا يمكن التوصل إليها إلا بتحقيق السلام الشامل العادل في كل أنحاء البلاد. فمأزق قوات الدعم السريع لا يرتبط فقط بدخول القوات الأممية، إن صح الافتراض، بل بعلاقة الدعم السريع مع القوات المسلحة، من جهة، والحركات المسلحة (خاصة الحركة الشعبية شمال/قيادة الفريق الحلو)، من جهة أخرى. ذلك، بينما يرى مو أن هناك جيشين فقط، مستبعدا تماما، حتى ولو بمجرد الإشارة، وجود أي تشكيلات عسكرية أخرى يعتد بها، ولا وجود لأراضي شاسعة خارج سيطرة الحكومة. إن الإقرار بتعدد الجيوش في البلاد محفز كبير للتقدم نحو اتفاق سلام، وكذلك محفز للاتفاق على محددات ةاستراتيجية الأمن القومي، والعقيدة العسكرية لدولة فيدرالية شرطها الديمقراطية والجيش الموحد. هذا هو التحدي الكبير التي تواجهها القوى السياسية مجتمعة، ويتجاوز بكثير الجدل المحتدم حول البعثة الأممية. في رأيي، أن مستقبل قوات الدعم السريع وقائدها مرهون بتحقييق السلام الشامل والعادل في البلاد وليس بدخول بعثة الأمم المتحدة السياسية أم عدمه! وفي رأيي، أن قائد قوات الدعم السريع ونائب رئيس مجلس السيادة يدرك الأمور من حوله جيدا، والذي قد يرفض ابتداءا قدوم البعثة، بالرغم من الضغوط المفروضة عليه من عدة جهات.
ختاما
إن كانت البعثة الأممية محكوما عليها بالفشل مقدما، توقعت أن يبحث مو عن سيناريو لرسم لمستقبل وضعية قوات الدعم السريع في ميزان القوى، في حالة تعثر استقدام البعثة الأممية، لأي سبب أو ظرف. وثمة سيناريو آخر، فإن أصبحت البعثة أمرا واقعا، فكيف سيكون رد فعل قائد قوات الدعم السريع وتعاطيه مع مثل هذا الواقع، بما يجنبه الاستبعاد من العملية السياسية؟ وبذلك، يمكن الحكم على البعثة الأممية للسودان تأسيسا على متلازمة الفشل المصاحبة لكل تجارب بعثات الأمم المتحدة، كما عرضها مو في المقال.