هيا
لا وقت إلا للعمل. هذه العبارة يجب أن تكون شعار هذه المرحلة التي تحرّر فيها إنسان السودان سياسياً، لكنه مَقهُورٌ اقتصادياً، ومن مسارب هذا القهر كم تسرّبت دكتاتوريات غليظة في كل دول العالم الثالث باسم وقف التدهُور الاقتصادي ومُحاربة الفساد وباسم جملة (العيش الكريم) التي أكره سماعها لارتباطها في أذني بكل محمولات الدجل.
أضعنا (63) عاماً من الخلافات التي تتجدّد كل ثانيةٍ على مدى هذه العُقُود، واختلفنا وتحاربنا، وكنا أوفياء للخارح أكثر من إخلاصنا للتراب، وجعلنا الحزب أعلى مَقَامَاً من الوطن، والمعارك الصغيرة حوّلناها مُرتكزاً أساساً، وكرهنا بعضنا، وتعالينا حتى على أنفسنا، وكاد الحصاد انقسامات، كاد فيها الفرد أن يصبح مثنى وحروبات وكراهية وتقيُّحا وذباباً وبعوضاً وظلاماً وظلامات!
نعتز بأننا شعب فوق كل الشُّعوب حتى أصبحنا تحت كل الشعوب. أهدرنا مواردنا في تصفية بعضنا البعض، وعرضنا وجداننا النقي لأبشع تصفية وكان كل ذلك يتم باسم الحرية والديمقراطية والتأصيل. باسم القيم تارةً، وباسم حماية الدين في كل الأحايين.
انزوينا وتخلّفنا وكبونا وصرنا في آخر سطور كراسة العالم، واحتكينا بكل الحيطان كأن الغربة جربٌ في جلودنا.
تفرّقنا في المهاجر القصية، وانشطرنا تحت كوابيس الهوية ولم نلحق بالبلدان التي نحمل جنسياتها ولا ذابت فينا هويتنا الوطنية.
نَحنُ الآن نطلع من تحت الرُّكام. الفرق بيننا وبين أهل الكهف أنّهم كانوا الأقرب للمثيولوجيا، غير أننا من صلب الوعي. نحن نطلع لنُؤسِّس لما سيكون وهم طلعوا للتعرُّف على ما كان!!
ليس أمامنا غير الانتجاع لمَاضينا لتنقية شوائب الخلافات والاعتراف ببعصنا والتوقُّف أمام المُشتركات وسد أبواب الفتن وقطع الطريق أمام كل همّاز ومشّاء بالحقد والنميم.
نحن أبناء وطن يرقد الآن مُمدّداً في الإنعاش يمد يده من خلل أسمال مرفأة لكل بنيه ولحمه من مختلف السحن ليرفعوه بعد أن جثا ويحملوه ويحوِّلوا جسده لراية مكتوب عليها (كلنا بنوك).
الجدال الذي يدور الآن حول كل شيء لا يكشف إلا عن ضعف القوى السياسية البيِّن التي تخاطب قضايا الحاضر من إرشيفها القديم. نفس التعلل وذات التكتيكات الشيء الوحيد الذي اختلف أن مُعدّل شهوة السلطة قد زاد وتوقد والتهب فأصبح الجميع بين نارين، نار التخلُّف عن الحاضر بالتمسك بتدابير الماضي، ونار السُّلطة التي لا يطفئها إلا (البل)!!
يطرح الحاضر إلحاحات جديدة لم تكن فيما مضى حاضرةً بمثل هذا التوقد. أولها إن فاعليات جديدة دخلت باحة العمل السياسي المسلح بمطالب ليس بالمقدور الوفاء بها إلاّ بِرج كل القوارير، وثانيها أن (الخارج) أصبح داخلياً للغاية لدرجة أن بعض القوى تعتبره عملاً وطنياً وأصبح شأننا الداخلي في طاعة الخارج تماماً. تحالفات سياسية تفرضها بعض دول الإقليم دون أن تكون لها أرض وتاريخ وقوى خارجية أخرى تدير ملف السلام كأنها مفاوض وطني. ووطنيون حيرى!