أبو عيسى.. مراثٍ مستحقة
امتلأت كل شوارع الفضاءات الإسفيرية بجداول انسابت من أفئدة وأعين ومشاعر ملوحة بالمآثر التي فاضت بها سيرة الراحل فاروق أبو عيسى واتفقت جميع المراثي أنه كان وفيًا للتراب ومخلصًا لعرق الجباه وفائضاً بالمشاعر الهتونة تجاه كل قضايا الشعب في لحظة إجماع نادر ومحبة لا تسكب إلا لمستحقها.
كنت كسائر الناس أعرفه ضمن سير جيل الآمال الكبيرة التي نازلت الاستعمار ورصت الصف الوطني وسلخت وقتها لأجل السيادة ثم أكرمني الله عام 68 لأستمع له وأنا صبي. كان ذلك في أمبدة وهو يخوض الانتخابات مرشحًا عن القوى الاشتراكية ضد الراحل حسن عوض الله مرشح الحزب الاتحادي الديمقراطي. كان معظم حضور تلك الليلة السياسية التي أقيمت على (ضو الرتينة) من جزاري أمبدة والفتيحاب وفريق العرب، وأنا كنت أعمل مع عمي صبياً في الجزارة أيام العطلات الصيفية للمدارس الوسطى، وكانت الأيام طرية والاشتراكية ندية والمشاعر خصبة وكان أبو عيسى رمزاً من رموز تلك الدفقة.
لم أنس تلك الليلة التي تباعد زمنها إلى أن قابلته كفاحًا في قاعة اتحاد المحامين العرب بالقاهرة في منشط دبجه لي الراحل التجاني الطيب في ديسمبر عام 91 للحديث عن التعذيب في بيت الأشباح بحضور الراحل أمين مكي مدني رئيس المنطمة السودانية لحقوق الإنسان.
منذ ذلك الأوان انعقدت بيننا آصرة وجدانية لما أحسسته من نبل ونخوة فقد كان الراحل آسراً وقوي الإشعاع.
تعرضت كل المراثي التي طافت حول سيرته لحياة أبوعيسى القائمة على المبدئية والمتجهة نحو الناس والشديدة الإخلاص للشعب، لكنها لم تتعرض لأهم مشروع أنجزه الراحل خلال توليه الأمانة العامة لاتحاد المحامين العرب لعدة دورات. كان ذلك المشروع الضخم الذي أنجزه أبو عيسى بمفرده هو مشروع (أبوعيسى بروجكت) أو هكذا سمته المفوضية السامية لللاجئين وإعادة التوطين.
بحلول العام 1995 فاضت القاهرة بعشرات الآلاف من السودانيين الخارجين من السجون والمفصولين للصالح العام ومئات الخريجين من العطالى، وضاقت الحياة فشرع أبوعيسى لتحويل قوانين اللجوء لصالح هذه المجموعات السودانية المجرفة مستعيناً بكل خبراته وخبرات المحامين العرب واستقطب الشاعرة سعاد الصباح لهذه الحملة التي انطلقت من مكتبه وكانت نتيجتها الباهره تكوين لجنة دولية تعمل من القاهرة لمنح السودانيين المشردين خارج السودان حق اللجوء السياسي فكان (برنامح إعادة التوطين) الذي تبنته الأمم المتحدة واستوعب الآلاف السودانيين من القاهرة ونيروبي وأديس وأبوجا، وكان أبوعيسي رمزه وواحده، وكان كل اللاجئين من السودانيين أعضاؤه التي انتشرت.
كان رحمه الله بقدر محبة الناس له كموج البحر يتقدم ويتلاطم ويلطم ولا يهدأ. حركة معادية للسكون وفكرة تتجدد كل يوم. كان لاعب وسط ارتكازي وهجومي يقطع ويصنع وكانت خبراته تظهر في كل شيء.
رحمه الله فقد كان جبلاً أنيقاً ولأنه (أبوعيسى) فإن قليلًا منه يشفي الروح!