:: لهم الله.. في مثل هذا الشهر من كل عامٍ، يَستنجد الأهل بمحلية البحيرة بولاية نهر النيل بالمسؤولين في وزارة الصحة المركزية، ثُمّ بمُنظّمات المُجتمع المدني، ليمدُّوهم بأمصال العقارب، فالمنطقة تضج بالعقارب.. وبين الحين والآخر، نتابع مآسي تلك المناطق المنسية وانتقال أرواح صغارها إلى رحمة الله بلدغات العقارب، وذلك لعدم تَوفُّر الأمصال بالقُرى.. وبلدغات العقارب انتقل في العام الماضي (150 طفلاً) إلى رحمة مولاهم.. ودائماً ما يكون تبرير صندوق الإمدادات الطبية: (يُوجد مصل العقارب، ولكن لا يصل كل المناطق)..!!
:: هذه المأساة مُتوارثة، وكذلك النداء.. وفي الخاطر، قبل ثلاث سنوات، لمُكافحة العقارب بتلك المحلية المنكوبة، عَقَدَ بعض سادة النظام المخلوع بعطبرة ما أسموها بالورشة العلمية المُتخصِّصة لمُكافحة العقارب بمحلية البحيرة.. وبدلاً من توفير المراكز الصحية والأمصال في قُرى المحلية، ثُمّ مد شبكة الكهرباء في كل أحياء المحلية وإنارة طُرقها وأسواقها، خرجت الورشة بتوصياتٍ أهمها كان تجميع مُواطني كل قُرى المحلية في مُجمّعات سكنية، ثُمّ جمع العقارب الموجودة في أحياء وفيافي المحلية بغرض تصديرها وجمع سُمُومها لإنتاج الأمصال..!!
:: تأمّلوا تلك التّوصيات.. فالسّادة العباقرة عندما عجزوا عن (فعل المُمكن)، وهو إنارة الأحياء والطُرق وبناء المراكز الصحية وتوفير الأمصال، فكّروا في (فعل المُستحيل)، أي تجميع كل أهل المحلية في مُجمّعات سكنية ثُمّ جمع كل عقارب المحلية بغرض التصدير واستخلاص السُّمُوم لصناعة الأمصال.. فالإرادة عاجزةٌ حتى عن مَدّ كهرباء سد مروي إلى الأحياء المُجاورة للبحيرة، ومع ذلك كانت تعد الناس بجمعهم في مُجمّعات سكنية ثُمّ تعد العقارب بتصديرها ونزع سُمُومها.. ثُمّ أنّ الإرادة كانت عَاجزةً حتى عن توزيع الأمصال، ناهيك عن صناعتها..!!
:: وهناك قصة أخرى ذات صلة بالعقارب أيضاً، حدثت قبل ثلاث سنوات أيضاً.. بطلتها فتاة سُودانية مُجتهدة وطموحة اسمها كوثر السّماني، خريجة جامعة أفريقيا العالمية.. قابلت كوثر صينياً بمطار الخرطوم، وعلمت أنّ الصيني يُريد كمية من العقارب، فَرَاقت لها الفكرة وقرّرت تنفيذها.. وسَألت السُّلطات: (مِن أين أبدأ؟)، ولم تجد الإجابة.. فالفكرة جَديدة ولا يُوجد هذا المشروع في بلادنا.. الجمارك، وزارة التجارة، وغيرها.. لم تجد الإجابة.. وأخيراً، وجدتها في الحياة البرية بالخرطوم، والتي طالبتها بدراسة جدوى المشروع وشهادة بحث المزرعة..!!
:: أعدّت كوثر الدراسة العلميّة والاقتصاديّة، وسلّمتها – مع عقد إيجار المزرعة – لسُلطات الحياة البرية التي أجازتها بالتنسيق مع المُنظمة العالمية للحياة البرية.. وزارت السُّلطات مزرعتها لتنال (التصديق المبدئي)، ثُمّ أكملت الإجراءات المطلوبة ونالت التصديق النهائي لمزرعة تربية العقارب بغرض التّصدير.. وأسّست مزرعتها حسب المُواصفة، ثُمّ شَرعت في جمع العقارب – من الولاية الشمالية – بأجهزة ومُعدّات صُنعت لذلك.. ثُمّ حفظها في صناديق زجاجية، لتتكاثر..!!
:: فتكاثرت، ونَجَح المشروع لحَدّ التّصدير.. لثلاث سَنوات، بَعد دفع الرُّسوم المَطلوبة لكل السُّلطات، ظلّت كوثر تُصدِّر العقارب.. وفجأةً، قرّرت السُّلطات زيادة رُسُوم جمارك الكيلو إلى ما يُعادل (ألف دولار)، وكانت عند بداية المشروع (سبعمائة دولار).. هذا غير تكاليف التجميع التي تُقدّر بنسبة (40%)، وعائد الصادر (2%)، والخدمات (5%)، وغيرها.. أيِّ بعد ثلاث سنوات من نجاح أول مشروع لتربية وتصدير العقارب في السودان، حَاصروا نجاح المشروع بالرسوم والأتاوات.. وهم الذين كانوا بلا قانون أو لائحة أو معرفة بفكرة المشروع وجدواها..!!
:: قبل مُحاصرتها بزيادة الجمارك والأتاوات، كانت كوثر تُصدِّرها بسلاسة.. وتسبّبت تجربتها الناجحة في إنشاء مزرعة عقارب أُخرى لمُستثمر آخر.. ولكن بعد الحصار برفع الرسوم وزيادة الأتاوات، أرادت كوثر تصديرها – عبر مطار الخرطوم – برسوم ما قبل الزيادة، فاتّهموها بالمُهرّبة وأسموا صادرها بالتهريب وأشانوا لسُمعتها في الصحف، ثُمّ صادروا عقاربها وأبادوها.. لو كانت أجهزة دولة (واعية)، لأخضعت تجربة كوثر للدراسة والتطوير، ولدعمت مشروعها، لتوليد المزيد من المشاريع.. ليست سُمُوم العقارب فحسب، بل سياسات الأنظمة الغَبِيّة هي الأخطر..!!