الخرطوم- عبد الله عبد الرحيم
نَعى رئيس مجلس الوزراء د. عبد الله حمدوك للشعب السوداني المناضل الوطني السياسي العتيق والقيادي المعارض فاروق أبو عيسى، الذي انتقل إلى جوار ربه نهار أمس بعد أن ناهز السابعة والثمانين عاماً من عمره. وقال حمدوك إنّ أبو عيسى كان أحد الرموز التاريخية للنضال من أجل التحرر الوطني والديمقراطية وسيادة حكم القانون في السودان، ولم يتوقّف عن البذل والعطاء طوال حياته، وأضاف أن الفقيد واجه في مسيرته السياسية الاعتقال والمُلاحقات بصمود وشجاعة، وناضل في جبهات عديدة وعمل لتعرية النظام البائد سياسياً وقانونياً في المحافل كافة، وسيبقى في ذاكرة الشعب رمزاً ملهماً وعظيماً.
القانوني والقيادي بالحزب الاتحادي المعز حضرة، كان قد ترافع عن الراحل إبان محاكمته الأخيرة هو وبعض الرموز المعتقلين، حضرة قال لـ(الصيحة)، إن فاروق من السياسيين القلائل الذين يُواجهون الصعاب التي تُواجههم بجلد وصلابة قوية، مشيراً إلى أن سبب وفاته هي العلة التي تعرّض لها جراء التعذيب في مُعتقلات النظام البائد بمعية أمين مكي مدني، حيث لم يفق من تلك الجراحات وآلام العذاب إلى أن لقي ربه نهار أمس.. وقد كان الفقيد في مبتدأ حياته ناشطاً في مجال القانون بالإضافة لكونه سياسياً. وفاروق من مواليد مدينة ود مدني بوسط البلاد عام 1933، درس المرحلة الأولية بمدرسة النهر الأولية، والتي كانت تعتبر المدرسة الحكومية الوحيدة في المدينة، بجانب مدرسة أهلية أخرى، ومن ثَمّ التحق بالأميرية الابتدائية بود مدني، ثم مدرسة حنتوب الثانوية والتي فُصل منها خلال الأشهر الأخيرة من دراسته بسبب نشاطه السياسي المُناهض للاستعمار البريطاني للسودان.
نشاطه السياسي
انضم أبو عيسى للحزب الشيوعي السوداني أثناء دراسته بمدرسة حنتوب الثانوية، وذلك عبر رابطة الطلاب الشيوعيين، وكان جزءاً من مكتبها السياسي منذ عام 1950، وفي تلك الفترة كانت تسمى الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو). وفي مطلع خمسينات القرن الماضي، شارك أبو عيسى في الإضراب عن الدراسة الذي نفّذه عددٌ كبيرٌ من الطلاب السودانيين، وذلك من أجل أن ينال الطلاب السودانيون اتحاداً عاماً، لكن المُستعمر البريطاني رفض هذا الطلب، وتمّ فصله من المدرسة وحرمانه مع عددٍ من الطلاب من الامتحانات. جلس أبو عيسى لامتحانات الشهادة الثانوية من مدرسة الأحفاد بأم درمان، وكانت رغبته هي دراسة القانون في جامعة الخرطوم، إلا أنه لم يتمكّن من ذلك، مما دفعه للالتحاق بكلية الآداب، لكنه لم يستمر بها، ليقرر بعدها الذهاب إلى مصر، حيث تم ترشيحه لدراسة الطب في القصر العيني بالقاهرة، إلا أنه فَضّل دراسة الحقوق في مدينة جامعة الإسكندرية والتي تخرج فيها عام 1957.
المعز حضرة قال إنّ أبو عيسى جاءت شهرته عقب أيام من نجاح ثورة أكتوبر 1964 التي أطاحت بالرئيس إبراهيم عَبُّود من الحكم في السُّودان، حَيث اشتهر أبو عيسى خلال أحداث مَا بَاتَت تُعرف في الأدب السِّياسي السُّوداني بـ(ليلة المتاريس)، حيث قاد الجماهير التي أغلقت الشوارع أمام تحرُّكات ضباط من الجيش للانقلاب على الثورة الوليدة.
حكومة مايو
شارك أبو عيسى في حكومة مايو، التي جاءت بعد الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد جعفر نميري في مايو 1969، بالتحالف مع قوى اليسار المكونة من الحزب الشيوعي السوداني والقوميين العرب، وتولى خلال تلك الفترة عدة مناصب وزارية، منها وزارة الخارجية ووزارة العدل. وفي العام 1970 تم فصله من الحزب الشيوعي السوداني عقب اتهامه وعدد من قيادات الحزب بالمشاركة في الانقسام الذي حدث في ذلك العام. وفي ديسمبر من العام 1983، فاز أبو عيسى بمنصب الأمين العام لاتحاد المحامين العرب، بعد أن هاجر من السودان واستقر في جمهورية مصر العربية، وتكرّر فوزه في دورات متتالية استمرت حتى 2003. وخلال توليه منصب الأمين العام للاتحاد رفض قبول عضوية اتحاد المُحامين السودانيين، بحجة استناده على قانون العمال، ولم تفلح جُهُود الحكومة واتّحاد المحامين السودانيين من الانضمام لاتحاد المحامين العرب إلا في عام 2005 بعد إجازة قانون الاتحادات المهنية لسنة 2004 والذي سجّلت بمُوجبه اتحادات الأطباء والمهندسين والبياطرة والصحفيين وغيرهم.
التجمُّع الوطني
ظلّ أبو عيسى خارج السودان منذ استيلاء الجبهة القومية الإسلامية على الحكم عبر الانقلاب العسكري الذي نفّذته في العام 1989، وعاد الى البلاد عام 2005، عقب اتفاق السلام الذي أبرمته الحكومة السودانية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، وأصبح أبو عيسى عُضواً في البرلمان السوداني في ذلك العام ضمن المقاعد التي خُصِّصت للتجمُّع الوطني الديمقراطي، الذي كان يشغل فيه منصب مساعد الرئيس. بعد رجوعه للسودان أعاد الحزب الشيوعي السوداني عضوية أبو عيسى، دون الإعلان عن ذلك، ليتولى رئاسة الهيئة العامة لتحالف قوى الإجماع الوطني، الذي يضم الحزب الشيوعي السوداني وأحزاباً أخرى. وتعرّض أبو عيسى للاعتقالات المتكررة خلال عهد الرئيس السوداني السابق عمر البشير، وذلك بسبب نشاطه الفاعل في مُعارضة حكومته.
آخر تصريحاته
وكانت آخر تصريحات فاروق أبو عيسى قبل أيام لوسائل الإعلام ينتقد فيها الأصوات المنادية لعقد تحالفات مع “الإسلاميين” من أعضاء النظام السابق أو منحهم فرصة جديدة في الحياة السياسية خلال الفترة الانتقالية، مُطالباً بأن تخصّص الفترة الانتقالية لتصفية نظام “تمكين الانقاذ والإسلاميين” وتهيئة البلاد لنظام حكم ديمقراطي تعددي. وقال إنهم في قوى الإجماع الوطني راهنوا على جماهير الشعب السوداني في تغيير النظام، في الوقت الذي كانت لعدد من القيادات السياسية مُحاولات للوصول إلى السُّلطة عبر تحالُفات وتسويات مع النظام السابق، مُشيراً إلى أنّهم في قوى الإجماع الوطني كانت ثقتهم كبيرة في أنّ التغيير سيتم عبر الشارع وجماهير الشعب السوداني، بينما تلكأت قيادات سياسية وسعت لتحالُفات مع النظام.
أبو عيسى فقط
وقال القانوني المعز حضرة لـ(الصيحة)، إنّ أبو عيسى عُرف سياسياً وإعلامياً بهذا الاسم فقط دون غيره ومجرداً على هيئته، ولم يُضف له اسم آخر، وهو الوحيد الذي ظلّ اسمه كما هو في وسائل الإعلام، مؤكداً أنه كثيراً، بل غالباً ما يصطدم بالسُّلطات ويُعرِّض نفسه للاعتقال أو المحاكمة، فهو شخصٌ مؤمن بتجربته وقناعته السياسية، وظل قابضاً عليها إلى أن وافاه الأجل متأثراً بعذابات المنافي والمُعتقلات.