أن تبلغ هذه الألقاب، فهذا يحتاج لدأب طويل ومثابرة صبورة، ويتطلّب أيضاً أن تكون مألوفاً ومعروفاً للناس؛ فالقيادي حين يبلغ هذه المنزلة في حزبه أو كيانه النقابي، فذلك يعني أن الناس تعرفه منذ أمد طويل حين كان قاعدياً وكادراً وسيطاً إلى أن شارف القيادة.
وحين يستحق أن تُطلق عليه صفة القيادي يجب أن تكون هذه الصفة معطوفة على مواقفه السابقة واللاحقة، وعلى فكره ومرتكزاته وتاريخه النضالي الطويل واعتقالاته وعذاباته وسجونه وما يبشر به وما عرف عنه وما يتحفظ عليه، لكن أن تقدم القنوات التلفزيونية شخصاً يطل على شاشاتها للمرة الأولى بصفة القيادي تجعلنا نتساءل: من هم الناس الذين يقودهم هذا القيادي الفجائي؟
قيادي نشاهده لأول مرة ولا نعرفه من قبل، فهذه الصفة تكتسب بالتراكم في الأساس لا بالمباغتة.
ظللت أتابع آفة القياديين الفجائيين من أيام مجلس الشعب مروراً بالتجمع الوطني الديمقراطي والتجمعات الوطنية اللاحقة التي انفلقت عنها لزحزحة الانقاذ، وأخيراً تجمعات حاضنة ثورة ديسمبر التي أنجزت الخلع والبل.
أحقن ذاكرتي بكل صنوف الإسناد كي أتذكر: أين رأيت أو سمعت صوت هذا القيادي، فيعود صدى الذاكرة سراباً لامعاً، وظل ذلك يتكرر يومياً بمعدل عشر نشرات أخبار في اليوم من البي بي سي، حتى الجزيرة وأخواتها دون أن تسعف الخطاطيف ذاكرتي بظلال من سراب هؤلاء القياديين الذين انتشروا كالنباتات البدائية على شاشات القنوات، من أين أتى هؤلاء القياديون؟ وهل اكتسبوا هذه الصفة بعرق السنين الطويلة أم أن لهذه الصفة علاقة (بالقيادة العامة)؟
هل يا ترى تخلفت سياسياً وأصابني مرض فرز ألوان القيادات، فأنا أزعم أنني أعرف كل قيادات السودان نخباً وقطاعات تقليدية وحديثة وقادة رأي ومجتمع، تؤهلني لتلك المعرفة مدة (40) عاماً قضيتها بين الصحف والأجهزة الإعلامية منذ عهد جعفر محمد علي بخيت حتى أيام فضل المولى الهجا وفضل السيد شعيب.
ما أصابني بالذهول أيضاً ما يسلسه المحللون، محللون تراهم أيضاً للمرة الأولى لكنهم على ثقة عالية بأنفسهم وعلى قدر عال من قدرة إسقاط الأماني على صحن التحليل دون منهجية ولا روابط ولا قاعدة يقوم عليها بناء التحليل، هتافات لاهثة وأحاديث مرسلة يمكن تسميتها بأي شيء إلا التحليل تقدس سره.
التحليل السياسي يقوم في الأساس على قراءة نص مغلق يتذوب بأدوات التحليل العلمية، ولا ينتهي بقطعية نهائية، لأنه يجري في الأساس على احتمالات، لذا فالمحلل الحصيف هو الذي يقرأ بتفطن وموضوعية كل الروافد التي تسير باتجاه ذلك النص المغلق موضوع التحليل بالعقلانية وليس بالزعيق ليخلص في النهاية إلى احتمالات راجحة بناءً على الالتقاطات السديدة وليس الصراخ الصريح.
ما ظللت أسمعه حتى يوم أمس ليس تحليلاً سياسياً بقدر ما هو (تعليل سياسي)، وهنالك فارق كبير بين المحلل السياسي والمعلل السياسي.
أما الاستراتيجيون ففي نعيم!