“القومة للسُّودان” والقعدة
مُبادرة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، هي الأولى من نوعها. فقد ظَللنا نُناشد الحكومة، ونتوقّع منها، أن تمد جُسُورها إلى الشعب، جسر للتواصُل وانتقال المعلومات في اتّجاهين، وجسر لحشد الدعم للمَواقف والسِّياسات والقرارات (كرفع الدعم) وجسر لحشد الطاقات والتّحوُّل إلى الإنتاج والاكتفاء الذاتي، والعَودة إلى نَمط الغذاء السُّوداني الأصيل بدلاً من الغذاء المُستورد، وجسر للتعارُف والتأييد والمُساندة. ولكن الحكومة ظلّت تَعيش في بُرجها العاجي، في ذلك القصر المُطل على النيل الأزرق، وتتواصل مع العالم كله، وتزور مُختلف البلدان، إلا بلداتنا السودانية المُهمّشة والمَنسية.
ومُبادرة “القومة للسودان” ليست نفيراً لجمع المال، فمهما جمع الناس ودفعوا من تبرُّعات فهي لن تكون إلا مبالغ زهيدة مُقارنةً بما تحتاجه البلد لحل مُشكلاتها الآنية، دَعك عن إقامة مَشروعات البنية التحتية كالسكة حديد والطرق والسُّدود. ولكنها مُبادرة سياسية مطلوبة. القصد منها حَشد الدّعم المعنوي لسِياسَات الحكومة، وحَشد الدعم السِّياسي، ورصّ الصف الشعبي أي المُواطن العادي، حتى يشعر بالضائقة التي نحن فيها، ويُشارك ولو رمزياً في تحمُّلها والسعي لحلها، وحتى يشعر أيضاً بمسؤوليته عن مُشكلات البلاد وعن حُلُولها أيضاً، وحتى يشعر بملكيته للقرارات والحلول التي ستطبِّقها الحكومة. فالدولة كما ذكرنا في مقالٍ سابقٍ، ليست جسماً مُستقلاً يملك المال والعصا السِّحرية، بل هي مجموعة من المُوظّفين الذين ندفع نحن رواتبهم، وندفع لهم أيضاً كل المَال الذي يُسيِّرون به الدولة. وتحتاج حكومة الثورة الانتقالية أكثر ما تحتاج إلى التفاف الناس حولها وحَول قراراتها.
ولو كانت الحكومة ذكيةً وراشدةً، فإنّ عليها أن تنتهز هذه الفُرصة، وتُواصِل في حَشدها ونَفيرها، وتُصارح الناس بحقيقة الوَضع، وتَحشدهم للمُوافقة عَلَى رَفع الدَّعم، ووقف الاستيراد، والتّوجُّه للإنتاج والعمل. وعليها أن تتفرّغ هي نفسها لهذه القضايا، بدلاً من تحديد من يُدير قناة النيل الأزرق، وقناة سودانية 24 وغيرهما.
إن كان الشاعر الكابلي قد قال مُقتبساً العبارة الشعبية، “القومة ليك يا وطني”، فإنّ الشاعر محجوب شريف قد قال: في حضرة جلالك يطيب الجلوس. وأتوقّع من الحكومة وقد عاد إليها بعض الرُّشد وأدركت أن حل المُشكلة هي عند شعب السودان وليس عند أمريكا ولا الصندوق ولا الاتّحاد الأوروبي، أتوقّع أن تقوم أيضاً بالجلوس أمام الشعب، وتتحدّث معه بكلامٍ مُهذّبٍ، عما يُريده، وكيف يُريده، وذلك عبر زيارات ميدانية لولايات ومُدن وقُرى البلاد، والاجتماع مع المُواطنين والاستماع إليهم، وعَقد مُؤتمرات مُوَسّعة للتّشاوُر حول مُختلف القضايا، كما ذكرنا في مقالاتٍ سابقةٍ.
ولن يحدث ذلك ما لم يتولَ الدكتور حمدوك قيادة المُبادرات والقرارات بنفسه، بدلاً من تركها للنّاشطين والصبية النزقين، الذين يتصرّفون في الدولة مثل الطفل الذي وَجَدَ لعبةً في شكلٍ مُسَدّس، فهو يملأ الدنيا كلها ضجيجاً بصوت فرقعة الطَلقات، ويُجرِّب أن يضرب به كل ما يُصادفه من بشر وحيوان وطير. وأن يأخذ القلم أيضاً من أولئك الذين يركِّزون همّهم في مَكاسبهم الذاتية، وأولئك الذين اتّخذوا السُّلطة وسيلةً للابتزاز، والثراء الحرام، والرشاوى والمفاسد، والانتقام الشخصي من أعدائهم.
على الدكتور حمدوك أن يثبت أنّه رجل دولة فعلاً، وأنه عند حُسن ظن الشعب الذي أتى به بالإجماع وعَقَدَ عليه الآمال، وأن يجلس إلى العُقلاء من أهل البلاد، كما “قاموا” هُم الآن للوطن، وحِينها سَنكتب: القومة ليك يا حمدوك.