العقل الشعبي في زمن الكورونا
يميل العقل الشعبي بطبيعته إلى الركون للأساطير، في مقابل النظرة النقدية والعلمية الموضوعية. فتطوير العقل النقدي يتطلب مقداراً معتبراً من التعليم، أي التعرض للحقائق العلمية وعلاقاتها بالواقع المعاش، ومنهجية التحقق الحسي من الأمور والوقائع، كما يتطلب تدريباً وممارسة طويلة حتى يصبح أمراً تلقائياً وطبعاً في تفكير المرء ونظرته للأشياء.
ولكن في زمان الأزمات، فإن العقل الشعبي، وعقول كثير من المتعلمين، تصبح أكثر ميلاً للأساطير والخزعبلات والتفكير الرغبوي، ويصبح المرء أكثر قابلية للتنازل عن عقله النقدي وعن الحقائق المؤكدة لديه، سيراً مع القطيع أو استجابةً لرغبةٍ دفينةٍ في التصديق، لشيء يتفق مع رغباته وهوى نفسه.
في جائحة الكورونا الحالية، نموذج واضح لمثل هذا التأثير. خاصة أنها جاءت في ظروف أزمة أخرى هي أزمة التغيير الثوري الذي تم في البلاد، وصاحبته كميات هائلة من الخزعبلات والأساطير، بعضها مصنوع بعنايةٍ وعمد، لأغراضٍ سياسيةٍ وحزبية، كمثل الأرقام المليارية المتداولة عن الأموال المهربة لخارج البلاد، وحتى داخلها، مما يزيد كثيراً عن مجموع ميزانيات البلاد منذ الاستقلال، وبعض تلك الأساطير والخزعبلات أنتجها العقل الشعبي نفسه جرياً على العادة في مثل هذه الأوقات المأزومة.
ففي جائحة الكورونا الحالية، وبعد المرور المتوقع على نظريات المؤامرة، التي أكدت منذ وقت مبكر أن الفايروس عبارة عن سلاح جرثومي طورته الصين ونشرته في العالم الغربي حتى تتمكن من شراء أسهم الشركات الأمريكية رخيصة، أو طورته أمريكا لتدمر بها شعب واقتصاد عدوها الصين، انتقلت الأساطير المؤسسة إلى تفسير انتشار المرض، سواء بأنه غضب من الله على الصين لأنها تقوم بقهر المسلمين الأويقور، ومعها بهارات من نوع: صدور قرار من الحكومة الصينية بالاعتذار للمسلمين، أو الدعوة للصلاة والتضرع مع المسلمين لكشف البلاء، أو بأنه غضب من الله على المسلمين أنفسهم بدليل أن الله طردهم من حرمه ومساجده، فتوقفت العمرة والجمع والجماعات.
ثم انتقلت ميثولوجيا العصر إلى الموضوع المفضل لدى السودانيين خاصة، وهو العلاج الشافي من الكورونا. فبعد تأكيد البعض أن المرض أصلاً لا يدخل البلدان الأفريقية أو الحارة، أو أن السود لديهم مناعة مطلقة من هذا الفايروس بالذات، بدأ سيل الأدوية الحديثة والشعبية في التدفق عبر الوسائط، فنسمع يومياً، في السودان، أن الصين قد توصلت للقاح أو العلاج الشافي ولكنها تنتظر فرصة مناسبة لتسويقه للعالم بأغلى الأسعار، أو أن ألمانيا قد دفعت لطبيب تونسي 500 مليون يورو ليعطيها حق إنتاج الدواء الذي اخترعه، لولا أن الغنوشي رفض ذلك، أو أن ترمب صادق باستخدام الكلوروكوين للعلاج، وإذا صادق ترمب فقد قضي الأمر، فهو شافٍ لا محالة! ومن ناحية أخرى أقسم البعض أن العلاج بالقرض فعال ومجرب (ولا يدري أحد أين ومتى جُرِّب، ففي السودان حالة واحدة توفي صاحبها مبكراً) أو أن حمل فص من الثوم يقيك من الفايروس ولا حاجة للكمامة ولا غسل اليدين.
ولم يفوّت السياسيون الفرصة طبعاً، واستثمروا في ذهنية الأساطير السائدة، أو قل واصلوا في استثمارها، فقال البعض أن الشعب الذي هزم الدكتاتور قادر على هزيمة الفايروس الصغير هذا، بينما لم ينس البعض أن ينسب التخبط في السياسات الصحية الخاصة بالتعامل مع الجائحة، إلى الدولة العميقة وبقايا الفلول!