مصر والسودان ٣-٣
هناك إدراك عميم يمكن التعرف عليه بيُسر شديد لدى غالبية شرائح المجتمع المصري لأهمية السودان، وهناك تفهّم تتشارك فيه جميع تيارات الطبقة المثقفة والمتعلمة والنخبة المصرية لأزلية تلك العلاقة مع السودان وخصوصيتها وتأريخيتها وأهميتها للمستقبل. وربما يلاحظ المراقب المهتم أن الشيء الوحيد المتفق عليه بين مسلمي مصر وأقباطها وجنرالاتها ويسارييها وإخوانها وسلفييها وليبرالييها وجيل ثورة يوليو المؤيد لشعاراتها وأجيال أكتوبر ويناير ومن يرفضون تلك الشعارات والساخطين على كل شيء، على أهمية السودان الاستراتيجية بالنسبة لمصر.
ربما لا يكون من قبيل الشطط إذا قلنا إن المصريين يختلفون على أم كلثوم وعبد الوهاب والأهلي والزمالك وعادل إمام ولكنهم لا يختلفون على السودان. كل ما في الأمر أنك تجد أن الإعلام والفن والسينما وتبعاً لذلك العامة يعبرون عن أهمية تلك العلاقة بطريقة مشوهة تسيء إلى نبل الفكرة.
إذا أراد المصري في الشارع العام التعبير عن محبته للزائر السوداني قال له: نحنا كنا بلد واحدة! وهذه كافية على الجانب الآخر لأن يتخندق السوداني مستدعياً ما درسه في منهج التأريخ عن الحكم التركي المصري، وعن الاستعمار الثنائي الإنجليزي المصري وما سمعه من حكايات بأن المصريين كانوا يستعمرون السودان وكان محمد علي يأخذ الرجال رقيقاً والنساء إماء، وكانت جيوشه تغلظ على الأهالي في جمع الضرائب وغيرها من الحكايات.
إذا شاهد السوداني وجهاً أسمر في عرض فكاهي مصري فإنه يظن أنه هو المقصود وإذا سمع المذيع توفيق عكاشة (وهو مقدم برامج لطيف وجدير بالمتابعة) يصرخ مطالباً بإعادة ضم السودان بالقوة إلى الحكم المصري تعامل مع الأمر وكأنه موقف ١٠٠ مليون مصري، وإذا تسرب من جلسة خاصة في قصر الرئاسة أن السياسي أيمن نور قال إن موقف السودان “مقرف” هتف الثوار بأن مصر تسيء إلى بلادنا.
لقد كان الخطأ التاريخي لضباط يوليو (الأحرار) أنهم تعاملوا مع قضية العلاقات مع السودان بحماس الشباب، وعقلية النصر والهزيمة العسكرية، والتفكير الاستخباري الذي كان يغلب عليهم. حرصت يوليو على التعامل مع الطبقة السياسية الرخوة والفاسدة، وتجاهلت التعاطي المباشر مع الجماهير. اهتمت بالتنسيق العسكري وتوفير فرص الدراسة للطلاب وغيرها من الخدمات الجليلة لكنها تجاهلت الحوار وطرح قضايا العلاقات الثنائية أمام الرأي العام. كان ضباط يوليو مولعين بالعمل السري، وجمع وتحليل المعلومات، ومضايقة الخصوم، وصناعة العملاء حتى صار الحديث عن علاقات إيجابية بين السودان ومصر منطقة خطرة قد تؤدي إلى وصم صاحبها بتهمة العمالة المفصلة مسبقاً، وبالمقابل صارت الإساءة إلى مصر وسيلة للتجييش العاطفي للغوغاء ورديفاً للوطنية.
يقع السودان بأراضيه الشاسعة وسكانه الـ٤٠ مليوناً (إحصائية غير رسمية) بين مصر وإثيوبيا البلدين الأكثر عدداً وازدياداً في السكان. كلا البلدين الجارين مواجه بعقود من العنت الاقتصادي، ومشاكل المياه، وتناقص الغذاء، وتراجع فرص العمل في عصر المجتمع الافتراضي، وليس أمام البلدين خيارات واسعة سوى تغيير نمطي الاقتصاد إلى الصناعة والرقمنة، وهذا لا يبدو قريباً، أو التوسع في الاقتصاد التقليدي وهو ما يعني بالضرورة التعامل مع السودان تعاوناً -غير مضمون- أو سيطرة وقهراً.
الحاجة الآن ملحة في السودان لفتح ملف مستقبل البلاد وضمان أمنها وفق استراتيجية واعية وعاقلة تنظر إلى خيار التعاطي مع مصر ليس على أساس ما يبث في التلفزيون، وإنما على أساس المصالح، وبالمقابل فإن على التلفزيون المصري أن يستجيب قليلاً لرغبة السودانيين في أن يروا صورتهم زاهية هناك وهو ليس أمراً صعباً بالنظر إلى المصالح المهمة بين البلدين.