* كان السعر التركيزي – المُعلن من قِبل مجلس الوزراء – لشراء القمح من المزارعين (2.500 جنيه).. وعندما أعلنت اتحادات وتحالفات المزارعين رفض هذا السعر، استجاب مجلس الوزراء لرفضهم، ثم قرّر رفع السعر التركيزي إلى (3.000 جنيه).. ولم يرفض الزُراع هذا السعر، بل قرروا بيع محصولهم في الأسواق، وبأعلى الأسعار، ثم سداد تمويل البنك الزراعي (نقداً)، وهنا خرج مجلس الوزراء عن طوره، وأصبح كما الحجاج بن يوسف يهددهم بالسجن والغرامة ومُصادرة قمحهم، ما لم يبيعوه للبنك الزراعي بالسعر التركيزي (3.000 جنيه)..!!
* ولكن بالأمس، أي بعد ساعات من التهديد، تراجع مجلس الوزراء عن السعر التركيزي (3.000 جنيه)، ورفعه إلى (3.500 جنيه)، وذلك بعد ما أسموه باتفاق تم بين رئيس مجلس الوزراء وتحالف مزارعي الجزيرة والمناقل، وقد شرفه حضوراً عمنا صديق يوسف القيادي بالحزب الشيوعي.. ومن نصوص الاتفاق، بجانب السعر الجديد، أن يوفر مجلس الوزراء الحاصدات والجازولين والخيش .. هكذا الحال، ثلاثة أسعار خلال ثلاثة أسابيع.. عفواً، ثلاثة أسعار (حتى الآن) أي ربما يتراجع مجلس الوزراء عن (3.500 جنيه)، ويرفعه مرة أخرى أو أكثر من مرة..!!
* هذا الارتباك يكشف أن الحكومة تمتثل للضغوط أكثر من إيمانها بالخُطط والدراسات.. لو كانت حكومة خُطط ودراسات لخطّطت ودرست ثم وضعت الأسعار المناسبة بمهنية عالية، ليربح المزارع وتكسب الدولة.. ولكن لأنها حكومة ضغوط، استجابت لضغط تحالُف مزارعي الجزيرة والمناقل، وعمنا صديق يوسف، حتى رفعت السعر إلى (3.500 جنيه).. وعليه، أقترح تعيين تحالُف مزارعي الجزيرة والمناقل وزيراً للمالية، وعمنا صديق يوسف رئيساً للوزراء، لأن البلاد بحاجة لأقوياء يصنعون القرار، وليس لضُعفاء يمتثلون لقرارات الأقوياء..!!
* وعلى كلٍّ، لم يكن مجلس الوزراء موفقاً في بيان التهديد والوعيد، ولقد عبّر الأمين العام للمؤتمر السوداني خالد عمر كاتباً بالنص: (القرار شابته شائبة وعيد تعافه النفس، بالإمكان سن منهج يقوم على التحفيز لا الوعيد لمحاربة المضاربين، وأعتقد أن مزارعي البلاد لن يتأخروا في تلبية هذا النداء)، وهذا هو الفرق بين السياسي والناشط .. فالشعب الذي ضحّى بأغلى ما عنده في سبيل الحرية والسلام والعدالة، لن يبخل بالقمح لمخزونه الإستراتيجي، ولكن بدون تهديد ووعيد و(عنتريات عُمر)..!!
* ومن المُحزن وصف الخبير الاقتصادي د. محمد الناير قرار حصر شراء القمح المحلي للبنك الزراعي بالموفق والجيد..غير الناير، لم يحدث في التاريخ المعاصر أن اقتصادياً وصف احتكار سلع بالموفّق والجيّد .. كان عليه أن يُبرر هذا الاحتكار بمزاعم من شاكلة أن القمح سلعة استراتيجية وأن الظرف يستدعي أن تضع الحكومة يدها عليه، أو كما يفعل خُبراء السلطان في كل العهود، ولكن من العيب أن يصف خبير اقتصادي الاحتكار بالموفق والجيّد .. غير بلادنا، ودول قليلة (مُتخلفة أيضاً)، لم تعد هناك دولة تؤمن بالاحتكار والحظر والمنع وغيره من مصطلحات العجز والفشل..!!
* نعم، فالاحتكار من سمات الدول ذات السياسة الاقتصادية المُتخلّفة، أي الدول التي عقولها الاقتصادية تدير الاقتصاد بلا إستراتيجية واضحة غير نظرية: (رزق اليوم باليوم).. وحظر حركة التجارة والصناعة والزراعة صار معيباً ومخالفاً لسنن الحياة الحضارية ذات الاقتصاد الحر.. بالمنافسة الشريفة، والتي منها تحرير الأسواق وفتح الاستيراد تُكافح الدول الناهضة المُضاربين والمهربين والمُحتكرين.. ولكن لأننا مُخالِفون بالفطرة لكل ما يمت للنهضة بصلة، ليس هناك ما يُدهش بأن تكون حكومتنا المدنية – كما العسكرية المخلوعة – تحظر وتمنع وتحتكر..!!