تحقيق: شوقي عبدالعظيم
البداية كانت من اكتشاف مخالفة إدارية، ترقى إلى درجة تضارب المصالح، المخالفة كانت مشتركة بين إدارة التنمية الدولية البريطانية المعروفة بـ”ديفيد” ومنظمة خدمات العون العالمي الهولندية “زوا” المشرفة على تنفيذ مشروع مياه أرياف السودان “أكوا سودان”، والذي سنورد تفاصيله لاحقاً، المخالفة التي أشرنا إليها فتحت الباب أمام إكتشاف مخالفات إدارية أخرى، ثم تواترت المعلومات والمستندات والأدلة لتكشف عن فساد صريح وتلاعب بأموال دخلت البلاد باسم الفقراء والتنمية واستدامة المعيشة، واتضح كذلك أن الأموال التي ضختها جهات عديدة من بينها “ديفيد” البريطانية والاتحاد الأوروبي وتبلغ ملايين الدولارات تبددت بلا طائل، ولم تصل إلى مستحقيها وأن المشروع فشل، بسبب ذلك الفساد وقلة المراقبة وانعدام الشفافية والتجاوز في تطبيق المعايير وضعف كفاءة القائمين على تنفيذه .
“شارلي” و” تريزا”
مستندات كشفت أن تعيين الزوجات لم يقتصر على “فيل” و”جو”، وحصلت (الصيحة) على مستندات تكشف أن ” تريزا” زوجة ” شارلي ميسن”مسؤول التحسين المتكامل للأمن الغذائي الأسري في “ديفيد”، حصلت على أموال من منظمة “زوا” الهولندية، وأيضاً أسند لـ”تريزا ” مهمة شبيهة بمهمة “جو” وهي أن تعمل على إعادة كتابة التقارير لصالح منظمة “زوا”.
وبحسب المصادر أن تريزا لم يقتصر عملها على التصحيح والتدقيق اللغوي مثل أختها “جو”، ولكن كانت تحصل على معلومات مباشرة من الموظفين في “زوا” دون أن يعرف أحد من الذي فوضها للقيام بذلك، وينطبق ما صرح به خبير التعاقد لصحيفة الراكوبة بأن أزلين هي المسئولة عن تعيين “جو” أيضاً في حالة تريزا، وحصلت (الصيحة) على مكاتبات بين “تريزا” زوجة أحد المسئولين في ديفيد وموظفين في “زوا” في بعضها كانت تستفسر عن جمل وعبارات غير مفهومة بالنسبة لها خلال عملها على صياغة تقارير تخص “زوا” كانت من المفترض أن تقدم لـ”ديفيد البريطانية”.
الفشل الأكبر
مشروع مياه أرياف السودان أو مشروع (إكوا سودان) هو المشروع الذي ظلت تعمل عليه إدارة التنمية الدولية التابعة للسفارة البريطانية التي تعرف بـ”ديفيد” خلال السنوات الأربع الماضية، وأوكل المشروع إلى قطاع المياه والبيئة الذي كان ” فيل أوترم” مسئولاً عنه، وتكلفة المشروع تفوق “30” مليون جنيه استرليني، يعادل مبلغاً ضخماً بالجنيه السوداني، دفعت إدارة التنمية الدولية البريطانية الجزء الأكبر من التمويل وشارك الاتحاد الأوروبي ببقية التمويل، ويتم تنفيذ المشروع في شرق وغرب السودان وتحديداً في ولايات كسلا والقضارف والبحر الأحمر، وغرب وشمال وجنوب دارفور، أهداف المشروع خطة تنفيذه كانت مبتكرة وبراقة، ومن الممكن أن تحدث واقعاً جديداً للسكان في المناطق المستهدفة من حيث توفر المياه والتحسن المعيشي والاقتصادي، وكانت الأموال المخصصة للمشروع وخطة تنفيذه ستحدث تغييراً كبيراً في مناطق متأثرة بشكل أساسي بالنزاعات والفقر، إلا أن فشل المشروع في مناطق عديدة تسبب في نتائج عكسية وأدى إلى فقدان الثقة بين المجتمعات المحلية والمنظمات الأجنبية والمحلية وبات ينظر لها على أنها مدخل للفساد وحصول موظفين على أموال على حسابهم، وفشل المشروع الرئيسي المتعلقة بالمياه يمثل فشلاً حقيقياً للمنظمات المنفذة والمانحين والمستفيدين على حد سواء.
شركات هولندية
بينما تشرف منظمة خدمات العون العالمي الهولندية ” زوا” على إدارة الشراكة المنفذة لمشروع “أكوا فور سودان” الممول من ” ديفيد” والاتحاد الأوروبي ” وقع الاختيار على مؤسستين هولنديتين لتقديم العون الفني للمشروع وهما مؤسسة ” أكاشيا ” ومؤسسة “ورين”، غير أن السكان المحليين والنتائج التي تحققت لم تكن في صالح ” زوا” المشرفة على التنفيذ ولا المؤسسات المنوط بها الدعم الفني، لأن المشروع في كل المناطق جرى تنفيذه فيها جُوبِه بمشاكل كبيرة وبلغ مرحلة الفشل في ولاية القضارف التي سنعتبرها نموذجاً في هذا التحقيق على أن نتتبع بقية الولايات في حلقات أخرى.
آبار بلا مياه
“لم نر دعماً فنياً من أي جهة، ولم تنتج كثير من الآبار التي حُفرت في مشروع المياه نقطة ماء واحدة”، هذا ما قاله سليمان أحد أعيان قرية “أم سقطة”، وانتقد السكان المحليون في عدد من القرى الآبار التي حُفرت في إطار مشروع “أكوا سودان” لجهة أن جميعها لم تنتج ماء وبعضها ظل العمل فيه متوقفاً لأكثر من عام، والآليات موجودة في العراء وآبار أخرى تم تخطيطها، ولكن لشهور طويلة الجهة المنفذة لم تبدأ في العمل وظل السكان منتظرين.
قال أحد العاملين في مكتب “زوا” بالقضارف لـ(الصيحة) ” تم حفر أربع آبار في المشروع ولم تنتج مياهاً، وواضح أن الدراسات الأولية واختبارات التربة لم تكن صحيحة”، والمفارقة المدهشة أن الآبار التي حُفرت بواسطة الأهالي في المنطقة تتدفق منها مياه غزيرة، ومضى المصدر قائلاً “آبار السكان التي تم حفرها بطريقة بدائية تنتج مياهاً كثيرة وقامت المنظمة بتأهيلها وهي الآن أفضل من الآبار الجديدة التي كلفت ملايين الجنيهات بلا طائل”.
من بين الآبار التي لم تخرج ماء بئر “الدنقرار” على الرغم من أن المشروع صرف في حفرها مبلغ (232) ألف جنيه سوداني، أما بئر “أم سقطة” التي حُفرت في منطقة جبل هي أيضاً لم تثمر ماء وتوقف العمل فيها بطريقة غريبة، وظل الحفار متوقفاً وموجوداً في منطقة البئر منذ ديسمبر 2019 بحسب اللجان في منطقة “أم سقطة”، وتكلفتها بحسب العاملين أيضا (232) ألف جنيه سوداني.
أما بئر منطقة “قرين” فقد أرشدنا عليها السكان، وقال عمر محمد – من سكان المنطقة – لـ(الصيحة) “حددوا هذه المنطقة ووضعوا الآليات ولم يعودوا مرة أخرى”، وكل من تحدث إلينا من الأهالي قال إنها ظلت على هذه الحال لأكثر من عام .
الحفائر في انتظار الصيف
الحفائر تخزين مياه الخريف التي تم حفرها ضمن المشروع لم تكن أحسن حالاً من الآبار، وهي حفائر تكلفة الواحد منها تفوق تكلفتها (4) ملايين جنيه وتفوق تكلفتها جميعاً (100) مليون جنيه سوداني، ولكن تخزينها وحفظها للمياه لم يكن بالطريقة المطلوبة، وما يؤكد عليه السكان المحليين وخبراء في مجال المياه فإن هذه الحفائر لن تصمد في فصل الصيف وستنضب.
والحفائر المتفق عليها في خطة المشروع (14) حفيراً بعضها أيضا لم يكتمل بحجة نقص الوقود في بعض الأوقات ولأسباب غير معلومة، ومن بين الحفائر التي لم تكتمل حفير ” الشحيط” وتكلفته (5) ملايين جنيه، والأهالي في حاجة شديدة له، وقال محمد آدم من أهالي المنطقة “المنظمة تعدنا بأن الحفير سيكتمل في كل مرة والخريف انتهى ولم ينته العمل”.
حفائر مسرطنة
المشكلة الخطيرة التي سمعناها من المواطنين في منطقة “سالمين” والتي تقوم منظمة “زوا” بتأهيل حفير فيها أن المياه التي تغذي الحفير تأتي من مواقع تعدين، وقال أحد السكان المحليين ” الحفير قديم وجاءت شركة من طرف المنظمات المسئولة عن مشروع المياه في الولاية لتأهيله، قلنا لها إن هناك مواقع تعدين جديدة قريبة من الحفير والمياه التي تأتي من هناك تختلط بمادة الزئبق ونخاف أن تتسبب في أمراض السرطان للناس في المستقبل”، ولكن الشركة شرعت فوراً في تأهيل حفير سالمين ولم تهتم بتحذيرات المواطنين بحسب الأهالي .
وقال المهندس صلاح حسن لـ(الصيحة) “هناك أخطاء واضحة في التخطيط”، وأضاف “مشروعات المياه يتم تنفيذها بحذر وتتطلب معرفة دقيقة بالمنطقة والتربة”.
ليس حفير سالمين وحده الذي يقع في مناطق تعدين الذهب ويخشى أن يختلط ماؤه بالزئبق، وكذلك حفير بان وهو أيضاً يعاد تأهيله ولم تهتم الشركة المنفذة بصحة المواطن في المستقبل والذي يكلف تأهيله مبلغ ” 4.378) مليون جنيه سوداني ، والتي ربما حال ثبت ضرره الصحي ستضطر المنظمة لإلغائه.
استغلال
مكاتب المنظمة المشرفة على التنفيذ (زوا) تصدر عنها بلاغات عن مشاكل إدارية كثيرة، ولكن أخطر ما يتم تداوله بين العاملين في القضارف ويتم التبليغ عنه رسمياً في بعض المرات استغلال كبار الموظفين لسيدات موظفات أو من يرغبن في الوظيفة في (زوا)، الأمر الذي انعكس على مجمل أداء المنظمة وفي تنفيذ المشروعات، ورغم علم المكتب الرئيسي في الخرطوم بمثل هذه الممارسات، إلا أنهم آثروا الصمت كما جرت العادة، ولم يكلفوا أنفسهم إجراء تحقيق لإيقاف الاستغلال ومحاسبة الموظفين الفاسدين.
مشكلات متنوعة
“اهتمام المسئولين في ديفيد وفي الاتحاد الأوروبي كجهات مانحة بالمشروعات لم يكن بالقدر المطلوب، الأمر الذي تسبب في إهمال المنظمات المنفذة لجودة المشروعات”.. هذا ما أشار إليه خبير المياه المهندس صلاح حسن ـ خبير مياه وأستاذ جامعي- الانتقادات التي يوجهها السكان المحليون في القضارف لا تخرج من التعليق الذي أدلى به المهندس صلاح لـ(الصيحة)، وقال: مواطن من قرية قريبة من قلع النحل “نرى عربات المشروع تمر بالقرية ومؤخراً سمعنا أن هنالك مشاريع للسكان ولكن لم تصلنا هنا”.
أحد المواطنين آثار مشكلة أخرى وهي التلاعب في أسمدة تم تخزينها منذ موسم (2017) وتم بيعها في السوق للتجار وقال إن عددا من المنظمات أحضرت سماداً ممولاً من الاتحاد الأوروبي لتحسين المشاريع الزراعية الصغيرة، إلا أنه تسرب للسوق، وأضاف “سماد المنظمات اشتريناه من السوق”.
المنظمة الهولندية لا ترد
اتصلنا على منظمة “زوا” عبر المسئول الإعلامي في المنظمة محمد جمال، وعد جمال بأنه سيعاود الاتصال والرد على كل ما أثير في هذا التحقيق، جمال لم يرد أرسلنا له رسالة رسمية على البريد الإلكتروني، وأكد في اتصال هاتفي أنه استلم الرسالة وأنه سوف يستشير مكتب الخرطوم ثم يرسل لنا الرد ولكنه لم يفعل حتى نشر هذا التحقيق .