الخرطوم- آيات مبارك
في مدينة صفراء قاحلة، ليلها باهت ومُظلم وطويل، وبالقرب من مكان بيع (الحجر الجيري) في حي الدوحة بأم درمان أو (حي الصقور) الاسم السابق له، أغمض “شول منوت” جفنيه للمرة الأخيرة، كان موته فاجعاً ومربكاً وكانت جثته ممددة من رهق المرض الطويل حتى غطّت عليها نوبة بكاء شقيقته، ونداءات الاستغاثة تُلاحق الجميع، حينها رحل وأخذ معه آخر أغنية كان يرددها “أنا سوداني أنا” بعد رحيل الجنوب جنوباً.
هنا مستشفى الصدر، في هذا المكان المُوحش الجديب، كان شول يُعاني ويلات المرض اللعين، ينام ويصحو على حوار بين رجلين وخطرفات عن مجيء مرضٍ ساحقٍ وغلاء فاحش وصفوف طويلة، كانت آلامه تقريباً هي فقط التي تؤنس وحشته، في هذه اللحظة بدت مستشفى أبوعنجة باهتة صفراء، كما لو أنها حزينة على رحيل شول، وهو الأمر الذي جعل الناس تنتبه إلى المستشفى من خلال صور فنان الجنوب والسودان، وترثي لحالها في ثرثرات مواقع التواصُل الاجتماعي، ولعلّ الأفجع من الفقد هو الفشل في الحصول على سيارة إسعاف تقل شول إلى مثواه الأخير.
نعي الشائعات
في العام 2014، أقفرت الحياة وأوصدت أبوابها في وجه منوت، كان يكح حتى الهزيع الليل الأخير، بصوتٍ عالٍ داخل المُستشفى لم يُرافقه سوى شقيقته، التي تذهب وتأتي لتعينه كل يومٍ، وذلك بعد أن عاد من مستشفى سنار وبعد أن خاطبه الأطباء أن البكتيريا صارت مقاومة للعلاج فنصحوه بالذهاب سريعاً إلى الخرطوم ولم يكن منوت حينها يملك في جيبه سوى مائة جنيه، دفعها لسائق الحافلة من أجل توصيله إلى الخرطوم .
وبمجرد وصوله إلى الخرطوم، اشتدت عليه موجات الألم ولم يستطع الوصول إلى المستشفى، ورفض سائقو الحافلات توصيله إلى مقصده، وعندما أعياه الوقوف افترش الأرض ليريح جسده النحيل، ومن ثم بعد محاولات عدة استطاع الوصول إلى المستشفى لكنه لم يستطع الدخول، الشيء الذي اضطره للاتصال بمنتج برنامج نجوم الغد الأستاذ “بابكر صديق” ومنها انتشرت صورته في مواقع التواصل الاجتماعي، وهبّ كثيرون لمساعدة الأسر التي أطلقت نداء استغاثة عبر البث المباشر في تطبيق “الفيسبوك.
إعياء متواصل
لم تكن تلك المرة الأولى التي يتوعّك فيها شول، فقد داهمه المرض في مدينة سنار ورآه أحد الشباب يفترش الأرض بإحدى فرندات سوقها، وكتب سريعاً في أحد قروبات المنطقة، مطالباً بنجدة نجم “نجوم الغد” وخفوا به إلى مستشفى سنار ومرة أخرى لم يستجب للعلاج، فنصحه الأطباء بالذهاب إلى مستشفى أبو عنجة، وحضر إلى المستشفى وبدأ في تلقي العلاج، لكن للأسف لم يجد المتابعة اللازمة من أصحاب الشأن اللهم إلا مبادرات شبابية فردية.
رغم بُعدي
كان صاحب الصوت الجميل جميلاً، مضى سريعاً بصوت عابرٍ للحدود على خشبة مسرح أم درمان مغنياً ومنادياً (أنا سوداني أنا) وغنى لــ(سنن البرامكة) و(حليلو الكنت راجيهو).. (رغم بُعدي برسل سلامي)، سنوات طويلة بليالها والفتى الأبنوسي يصارع المرض، ويكابد رهق العلاج، يلتحف الأرض في ركن قصي بمستشفى أبو عنجة للأمراض الصدرية.
مضى منوت إلى ربه، بعد أن ظل حبيس تلك الغرفة المُتهالكة التي تُنبئ عن حال المرافق الصحية، وكان صوته أيضاً قد توقف عن الغناء مع المغيب، لكنه رحيل في هذه السن الباكرة وبسبب المرض، فجّر أحزان السودانييين في الشمال والجنوب، على حدٍّ سواء، فهو أحد علامات الوحدة العصيّة على الانفصال.