(1)
في سنوات بيروت، لو أراد أدريس عوض الكريم أن يبيع بضاعته الفاخرة؛ لتأبط رئاسة جريدة لندنية ذات صيتٍ وألقْ، أو لأصبح نجماً أو مديراً لإحدى قنوات التلفزيون، ولكن إدريس عوض الكريم مثلهُ مثل ذاك النّهر الهائم وآلاف السودانيين شمالاً وجنوباً المالكين لأرفع القدرات في مجالاتهم، والمسْكونين بالتّواضعِ والإعراضِ عن الحياةِ، فهم لا يعرضون بُضاعتهم في الأسواق مهما كان الثّمن، فسّر البعضُ ذلك بتأثير روحهم الصوفيّة المعذّبة ولكنّ هذه التفسيرُ وحده غير كافٍ، لأن الجنوبيين يحملون نفْس الصّفات، وهي ضاربة الجّذور في أعماق التّاريخ والصفات الموروثة، ولكمْ تأمّلتُ وتوقّفتُ عند ترفّعِ أنسان عظيم واسع القدرات والحيل الأكاديمية مثل البروفيسور عبد الله الطّيب وعزوفهِ عن عرض بضاعته للبترودولار، حينما أصْبحَ الدّين موضةٌ وسلعةٌ معروضة في (فترينات العرض). فيمّم وجهه صوب بلدان الفقراء في نيجيريا والمغرب، لم يبعْ ولم يتاجر بالدّين، فقد كان عبد الله الطيب ” الذي حوى كلّ أصْنافِ العلوم ولم يزلْ يسْعى حتى غاب” في الزّهدِ شيْخاً من شيوخ المجاذيبْ وأُولئك آبائي فجئني بمثلهم، وآخرين فضّلوا عرض فتاواهم المستأجرةِ لكل من طلب ودفع الإيجار واكتفى عبد الله الطّيب بشرح الدّين للفُقراء وبلغتنا الدّارجة عبر مذياع أمدرمان مع الشيخ صدّيق أحمد حمدون في برنامجه “دراسات في القرءان الكريم” ولطالما استمعتْ إليه أُمي (فاطمة عالم) وتعلّمت منه وهي لم تذهب إلى أي تعليمٍ نِظامي.
(2)
في نهايات السّبعينيات، وغروب شمسها كنا نقرأ بنهمِ وشغف؛ أدبيات ودورات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السّوداني الأنيقة لغة ومضموناً في ذلك الوقت! ولا غروْ في ذلك، فقد عكف على كتابتها الكِبار من لدُنْ محمد إبراهيم نقد والتجاني الطيب بابكر، وفي إحدى تلك الدّوراتِ والتي صدرت عقب 19 يوليو 1971، تناولت ما قام به إدريس عوض الكريم من حشدِ للتضامن الدّولي مع الحزب وقضايا السودان في بيروت في فقرة موجزة أختزنتها في ذاكرتي.
(3)
في عام 1995 وفي نهارِ بديعِ من نهارات مدينة أسمرا الأريترية، وجدتُ نفْسي وجهاً لوجه أمام إدريس عوض الكريم ! في شارع الحرية، وانخرطنا في حوارِ طويل أستغرق عُدة أيام بشكلٍ يومي، حول تجربته ومساهماته في ثورة أكتوبر 1964 حينما كان يدْرس في معْهد المعلمين العالي – كلية التربية جامعة الخرطوم، مروراً بحل الحزبْ وبمايو 1969 وحدّثني عن عبد الخالق محجوب ورهْطه، و19 يوليو والثورة الأريترية والقضية الفلسطينية وسنوات بيروت ودمشق وبغداد، كان إدريس إنساناً جميلاً ومثقّفاً وذا زادٍ وطني وتجربة ووعياً يساريّ الهُويّة والهوى، ومجيداً للغتين العربية والإنجليزية، وموهوباً في حفظ وإلقاء الشّعر، ومترجماً حفظ الكثير من الشعر القديم والحديث، ويجعلك تعيد البصر والنظر كرّتين وأنت تقف على أبواب أبي الطيب المتنبي، ولا فكاك لك من محبة عبد الوهاب البياتي إذا استمعت لإدريس عوض الكريم وهو يتلو قصائدهِ وعذاباته في المنافي وحبه للعراق، وخاصة قصيدته (إلى ولدي علي)، ولا شك أنك ستُهيم بعشق البياتي والعراق، وقد استمرت لقاءاتنا لعدة سنوات.
(4)
في 3 مارس 2020 قرأتُ مقالاً؛ يُفيض بالوفاءِ والإنْصاف والحزن النّبيل في رثاءِ الأستاذ إدريس عوض الكريم، وجمائله وجماله كتبه الأستاذ (عمر جعفر السّوري)، هذه المقالة النضيدة لهي ما يستحقها إدريس عوض الكريم، لتعريف الأجيال الجديدة به، فلإدريس عوض الكريم سهمٌ وبذرة في ثورة ديسمبر والخير خير وإن طال الزّمانُ به.
(5)
بالدويم، وفي زمانِ ما – ولد إدريس عوض الكريم، وفي يوم الجمعة 28 فبراير 2020 رحل إدريس عوض الكريم، آخذاً معه كرّاساتهِ وأحلامه بعد أن طاف بها بيروت ودمشق وبغداد وأسمرا، ثمّ حطّ رحاله مرة أخرى في بلاده السّودان ليستريح من جديد، فمنها كانت البداية وإليها عاد خلسة عند النهايات، وهكذا النوارس دوماً تعود.
(6)
في أسْمرا، ولعدة سنوات التقيت بإدريس عوض الكريم ومع أصدقاء وأدباء وفنانين ومثقفين مميزين، تضم القائمة أناساً كُثر على رأسهم (الشاعر الكبير السوداني الأريتري محمد عثمان كجراي، وأستاذ المبدعين محمد وردي الذي غنى لكجراي “ما في داعي “)، وكنت كلّما التقيت في مجلسٍ بمحمد وردي وبدأ الغناء إلا والتفت إليّ قائلاً “طبعاً أنت حتقول لي غنيّ ليّ ما في داعي ” ولقد أخذها من كجراي في مدينة واو في صيف العام 1962 { ماف ي داعي تقولي ما في
يا الربيع في عطرو دافي
لهفة الشوق في سلامك
في كلامك وسر غرامك
ماهو خاف}.
في أسمرا التقيت إدريس عوض الكريم في مناسباتٍ مختلفة ضمّت المناضل الكبير والكاتب محمد سعيد ناود، وزعيمنا د. جون قرنق ود. فرح حسن آدم، ود. شريف الدشوني، ود. عمر نور الدائم، والثلاثة من أنحاء مسقط رأس إدريس عوض الكريم، وكذلك محمد مدني وعبد الحكيم محمود الشيخ، وعبد العزيز خالد، وفتحي الضو وصلاح الأمين، وعبد الله جابر وفيصل مسلمي، وعادل القصاص، وآمال علي، وخالد طه، وآخرين كُثر، إن رثاء الأصدقاء والآخرين مؤلمٌ، لكننا بذلك نحاول أن نستعيدهم بإنسانيتهم مرة أخرى إلى الحياة.
(خاتمة)
رحل الأستاذ إدريس عوض الكريم الذي أيّد الثّورة الأريترية، وعمل في صفوفها والمقاومة الفلسطينية دون فاتورة حساب عاجلٍ أو آجل، ولم ينقطع من قضايا شعْبهِ، وخرج مثلما جاء لا يمتلكُ إلا محبة شعبه، كان صاحب قدراتٍ وإمكانيات، لم تجد ما تستحقه من مكانة، وفي عالمه الجديد؛ له محبّتنا، ولقد سعدتُ بلقائه والتّعرف على بحر إنسانيته في رحلتنا القصيرة جميعاً .
والعزاءُ لأسرته وأصدقائه وعارفي فضْلهِ، وأقول له ما كنت سأطلبه منه إذا ما التقيته أن يتلو على مسامعي قصيدة البياتي (إلى ولدي علي)، ولقد رحل البياتي منذ سنوات، وترك عشقه وحبه للعراق العظيم الذي يعاني مثلما تعاني بلادنا، ولا يزال شعر البياتي ملهماً مثْلما كان، وإلى إدريس عوض الكريم مطلع قصيدة البياتي المليئة بالحزن والأمل
{ قمري الحزينْ
البحر مات وغيّبت أمواجُهُ السوداء قلع السندبادْ
ولم يعد أبناؤه يتصايحون مع النوارس والصدى المبحوح عاد
والأفق كَفَّنَهُ الرمادْ
فَلِمَنْ تغنّي الساحراتْ؟
والعشب فوق جبينه يطفو وتطفو دنيوات
كانت لنا فيها، إذا غنى المغنّي، ذكريات }
جوبا – 4 مارس 2020