كتب الشاعر والإعلامي والكاتب الصحفي المبدع مُحـمّد مُحـمّد خير، مقالاً يدعو فيه الأقلام الصحفية أن تُبشِّر ولا تنفر، وأن تنشر التفاؤل لا اليأس والإحباط، وأن تثقب حبة الرمل الصغيرة، ثقباً تجتهد في توسيعه حتى يصبح براحاً يسع أحلام الناس، ويستوعب تطلُّعات الشعب. ولكن الكاتب الأنيق العبارة، المُتدفِّق جمالاً وأنساً، والمُتفرِّد بذلك القلب الأبيض الذي يَسع الجميع يميناً ويساراً ووسطاً، عاد ليستدرك بأنّ السير في طريق التفاؤل ونشر الأمل في غدٍ أفضل، وفي فجرٍ يشرق بتحقيق الوعود والأحلام، يحتاج إلى سِعةٍ في النفوس، وتَوافقٍ بين الشركاء والأضداد، وتنسيق بين شركاء الوطن. وبدا لي محـمد مُتشائلاً، كمثل سعيد ابن أبي النحس، بطل رواية إميل حبيبي الشهيرة.
يدرك الناس جميعاً أنّ ما يجري الآن، مهما تفاءلنا وغَطّينا أعيننا بنظارةٍ ورديةٍ، هو في حقيقته صراعٌ صفريٌّ بين نقيضين، لا تتّسع الأرض لكليهما. فالمقتول يقوم من قبره لأخذ الثأر، والقاتل يعلم، أو لَعلّه لا يعلم أنّ الدورة ستدور عليه مهما بلغ من القُوة والقُدرة على الأذى، بل كلما ازداد مقدار ما يسببه من أذى، كلما تأكّد أكثر من رد الفعل الآتي لا محالة. والضائع في صراع الأفيال هذا، هو عشب الشعب الطري، الذي أنهكته المعيشة وأهلكه العجز والفقر واليأس والضيق.
إنّ دخول نفس الفيلم ثلاث أو أربع مرات هو أمرٌ مُملٌ ويبعث على الضيق والزهج. أما إن كان الفيلم هو مأساة واقعية تتكرّر، فإنّ مُشاهدته للمرة الرابعة هو أمرٌ مُحبطٌ وقاتلٌ. وفيلم الصراع الصفري هذا ظلّ يدور عندنا منذ ما قَبل اختراع السينما، منذ صراع المهدي والعُلماء، وصراع الخليفة ومَن مَعه من أولاد الغرب، وأولاد البحر، وصراع الفانوس والقطية، وصراع اليمين واليسار، وصراع الحكومة المركزية والتمرُّد الجهوي، وصراع الإسلام والعلمانية، وصراع الجميع ضد الجميع الذي يجري الآن.
ما يدعو للتفاؤل أنّ للسودان رباً يحميه، وأن هذه البلاد غنية بالموارد الكامنة التي تنتظر التفجير، تلك الموارد التي دعت مُحـمّد علي باشا لاحتلالها، ثُمّ دعت الإنجليز لإعادة احتلالها. وتدعو الآن العالم كله، خَاصّةً أمريكا وإسرائيل وبعض دول الجوار، لحصارها والعمل على تفتيتها وتدميرها مَرّةً وإلى الأبد.
ولكن ما يدعو لليأس هو أن لا أحد من أعضاء النخب الحاكمة والمُتحكِّمة يُفكِّر في البلاد ولا في الشعب. فالفكرة كلها محصورة في كيفية القضاء على الآخر المُخالف، والسيطرة على الدولة ومقدراتها، وتخصيصها للمُقرّبين والسابقين أصحاب اليمين والحظوة والتمكين.
أعرف أنّ هُناك ضوءاً في آخر النفق، ولكني أرى جبالاً من العقبات والعوائق والمَوانع والسُّدود والحواجز دُونه، وأهم هذه العوائق هو أنّه لا أحدٌ يُفكِّر الآن في إزالتها ومُعالجتها، بل يعمل الجميع على ردم المزيد من الطوب والشوك، وتعلية الأسوار الفَاصِلَة وحفر الخنادق المانعة.
إلا مُحمّد مُحمّد خير، فهو شاعرٌ، والشاعر المُحب للحياة لا يملك إلا التفاؤل، وإلا الدعوة للحُب والخير والجمال والبشارة.