نموذج إندونيسيا
الأوضاع في السودان حقيقة مقلقة ومخيفة ومؤشر واضح لسوء أيام قادمات… فالمشاهد كلها مخيبة لآمال وأحلام الشعب وأكثرها وجعاً وإحباطاً هذه الصورة العبثية لمفاوضات السلام المتوقف عليها اكتمال أركان الثورة، فقد انقضت شهور ووفود تذهب وتلتئم وتخرج ببيانات واهية غير واضحة، لا يمر عليها يوم حتى يناقضها الطرف الآخر أو نفس الطرف المفاوض. فقد بشّر عضو مجلس السيادة وعضو وفد التفاوض الحكومي الأستاذ محمد حسن التعايشي في مؤتمر صحفي بالاتفاق على مثول المتهم عمر البشير أمام محكمة الجنايات الدولية، ولم يمر عليه يوم حتى اعترض عليه رئيس مجلس السيادة البرهان قائلاً إن مثول لا تعني تسليم المتهم، إذن ماذا تعني كلمة مثول، فإذا كانت المفردة تعني ظهور المتهم أمام المحكمة، فهل ستأتي المحكمة إلى السودان في أول سابقة منذ أن أنشئت ليظهر أمامها.. حقيقة هذا الجدل العقيم الذي يسمى مفاوضات سيظل يدور في حلقة مفرغة، وأمس الأول تم تمديدها إلى ثلاتة أسابيع أخرى، وإن استمرت ثلاث سنوات بهذه الطريقة لن تفضي إلى أي وفاق، ستظل مجرد متاجرة رخيصة بقضايا يجب أن تكون انتهت مع نهاية الإنقاذ، وأيضا الظهور المفاجئ لما عُرف بالمسارات التي ظهرت من العدم ولم يسبقها أي وجود فعلي على الواقع بمسميات هلامية مثل مسار الوسط، مسار الشمال، من هم ومن يقف وراءهم، ومن المستفيد من صناعتهم وإقحامهم عنوة في المفاوضات…. خسارة، فالبلد يضيع بيد أبنائه من تمركز للذات مليء بالأنانية وانعدام الإحساس بمعاناة هذا الشعب الذي وصل إلى أقصى حدود الفقر والجوع والعوز والحاجة، خسارة الأرواح البريئة التي أفتدت هذا الشعب وبذلت دماءها لكي ينعم بالأمن والاستقرار… صحيح هنالك تباينات في مجتمعنا قبلية وإثنيه وعرقية وثقافات مختلفة، ولكن تنقصنا النفوس الطيبة والضمائر الحية، ينقصنا تقبّل كل منا للآخر فنحن كمجتمع وكسياسيين لابد أن نتقبل أننا مُبتلُون بمرض البرانويا الاجتماعية وإحساس أنا العظيمة، والأفضل ورأيي هو الذي يجب أن يسود وإن كان بالدم لذا انهزمت عندنا الإرادة الجماعية في أن تكون لنا دولة حقيقية ومحترمة، نعيش كلنا بداخلها في أمن وأمان، أغلبية دول العالم تتكون شعوبها من إثنيات مختلفة وأعراق وقبائل متباينة الأديان والثقافات ومحتلفة في الأعراق، إلا أنها نجحت في أن تشكل من هذا الاختلاف وحدة جامعة ودولة متحدة، فالنموذج الإندونيسي خير مثال ملهم ومذهل، فإندونيسيا أحد أكبر الاقتصاديات الآسيويه والأكثر نمواً واستقراراً، مجتمعها مكون من ثلاثة آلاف قومية، وتتكلم ثلاثمائة لغة، وتتكون جغرافياً من ثلاثة آلاف جزيرة ويعتنق أهلها أكثر من ديانة، ولكنها بالإرادة نجحت في تطبيق فكرة “الوحدة في إطار التنوع” تحت المبادئ الخمسة التي تضمنها ما عرف بمذهب “البنكسيلا”، وهي الإيمان الكامل بالوحدانية الإلهية، والتعامل الإنساني العادل والمتحضر ووحدة إندونيسيا والديمقراطية القائمة على الحكمة والتشاور، ومبدأ العدالة الاجتماعية، وبموجبه تحقق لم الشمل والاستقرار الاجتماعي، والآن اقتصاد إندونيسيا ينافس الصين وروسيا والهند والبرازيل … حقيقة الوضع مؤلم والانقسام السياسي مستمر وليس هنالك أصدق بأمانة من الصورة التي عكسها نائب مجلس السيادة الفريق محمد حمدان دقلو في حواره الأخير، وحديثه بكل صراحة وشفافية عن عدم وجود شراكة حقيقية بين مكونات الحكومة نفسها، وعبث ومعاكسة مجموعة من قوى الحرية والتغيير.
هذا الحديث الواضح المسؤول أبان حجم كارثة التشظي وافتراق الطرق في لم شمل الوطن، ولكن بدورنا نأمل ونرسل رسالة لحميدتي، الآن ليس وقت الإحباط والمفارقة والرجوع بالرغم من الحاصل، فلابد من التكاتف والمزيد من التحمل والعطاء لأجل هؤلاء الشباب الذين وضعوا كل آمالهم في هذه الثورة وأخلصوا لها حالمين بوطن مستقر ودولة ناجحة.