كنتُ عابراً مثل كل العابرين في الحياة، وعند أرصفة الشوارع في مدينة جوبا وقد احتواها الغبار بلا رصيف.
رأيت امرأة أبنوسية ممتلئة بالكبرياء وصنع الحياة، تضع أمامها(كريستالات) معبأة بالوقود تعرضه على المارة وأصحاب السيارات التي تجود عليها تارة بالغبار وتارة بمشترٍ! اتخذت من الشارع (كنتيناً) ومن أعمدة الإنارة والإضاءات البعيدة معملاً لتطريز ملاية، تطرد بها السأم وانعدام الزبائن، وتضيف مورداً آخر من الرزق الشريف.
أعمدة الإنارة في الطرقات كانت فكرة من أفكار الإسكندر الأكبر (ذو القرنين) الذي فتح كل العالم القديم أوربا وأفريقا وآسيا، وحينما بنى مدينة الإسكندرية وأطلق عليها اسمه أقام في شوارعها أعمدة، ووضع على رأس كل عمود زيتاً وقماشاً، وحين يحترق القماش داخل الزيت يضيء الشوارع طوال الليل، وتطورت (مسرجة) الإسكندر الأكبر إلى أعمدة الإنارة في الشوارع، الإسكندر الذي كان معلمه الخاص الفيلسوف والعالم الكبير أرسطو ظلّ في فتوحاته التي امتدت أحد عشر عاماً يراسل شخصين أمه أولمبوس التي اغتالت أباه الملك فيلب لاحقاً، وراسل كذلك معلمه أرسطو، والإسكندر هو أول من تحدّث عن الفيدرالية والحكم اللامركزي، ومن فكرة الإسكندر القديمة في إضاءة الطرقات تصنع هذه المرأة الحياة.
إن هذه المرأة تنتمي إلى أرض النساء والرجال الشجعان، فهي من أويل ومن دينكا ملوال، وفي سنوات الحرب وعلى طول جبهاتها، شكل أبناء أويل ونحتوا مساهمتهم بجدار صلب بنوه من دمائهم وشجاعتهم، ولم يخُض الجيش الشعبي لتحرير السودان معركة أو قدم شهيداً أو جريحاً إلا وسجلوا أنفسهم في دفتر الحضور منذ بدايات تأسيس الحركة الشعبية، فقد شاركوا بجسارة يتقدمهم العم الراحل لوال دينق وول بقفشاته الذكية.
الجنوبيون النازحون في مدن شمال السودان صنعوا نزوحهم من قيم الشرف ولم ينهزموا أمام مشقات الحياة، ولم تنتشر في أوساطهم الجرائم والمخدرات والدعارة، لأنهم مُصنّعون من طين الثقافة والقيم النبيلة.
فطوبى لامرأة تستنشق الغبار وتصنع الحياة، وتضيف من إنارات الطرق البعيدة مورداً للرزق، وطوبى للفقراء أبد الدهر وهم صُنّاع الحياة.