رغم أن شعار ثورة ديسمبر الأشهر كان هو “تسقط بس”، إلا أن الواضح أن الشعب حقيقة لم يكن يريدها أن تسقط وبس. بل كان يريد أن يسقطها ليقيم مكانها حكومة صالحة، تحقق له ما لم تحققه الحكومة التي أسقطها: الحرية والسلام والعدالة، والوفرة والكفاية والنهضة الشاملة والرفاه. وقد تكونت الحكومة من القوى السياسية التي اسمها قوى “الحرية والتغيير”.
نجحت الثورة في إنجاز المهمة الأولى، وهي إسقاط النظام. أما التغيير، فإنه صبحٌ لمّا يسفر بعد، كما في عبارة أثيرة للدكتور منصور خالد. التغيير الثوري تغيير شامل وكامل وكاسح، وليس مجرد تغيير في بعض الوظائف في الحكومة والخدمة المدنية: مدير للمواصلات هنا، وسفير هناك، ومدير إدارة في السدود والكهرباء هنا، ومدير لشركة التعدين أو البنك الزراعي هناك.
كنت أتوقع تغييراً كاملاً وشاملاً في إدارة الدولة وسياساتها. فبدلاً من الإدارة من المكاتب الخرطومية، كنت أتوقع أن يدير رئيس الوزراء حكومته من الميدان، من الأقاليم والقرى البعيدة والأرياف. كنت أتوقع وقوفه على سمسم القضارف وقطن الجزيرة وقمح الشمالية وليمون بارا، وأن يمر على خط النفط القادم من هجليج وبليلة، وعلى طريق جبرة الشيخ الذي جرفته السيول، وعلى محلج القطن في السميح، ومستشفى نيالا، وميناء سواكن وخزان الروصيرص، ومطار أمدرمان الجديد، ومدرسة “عديد راحة” ومناطق التعدين في وادي الصنقير بمحلية أبو حمد، ومزارع “أمطار” و”الراجحي” في صحراء الدبة، وغيرها. وذلك ممكن جداً بمعدل زيارة واحدة أسبوعياً لإحدى الولايات.
كنت أتوقع أن تتوقف الدولة عن التصرف غير الراشد الذي يصل حد السفه، باستيراد القمح الفاخر، بينما الذرة تتلف في المخازن والصوامع، لأن النظام الذي أسقطته الثورة، كان صفوياً ومعزولاً عن الجماهير، يستورد التفاح والكيوي والشوكولاتة الفاخرة والقمح الأبيض بالدولار العزيز، بينما يموت الناس عنده من عدم الدواء، ومن الحوامة بحثاً عن الخبز، أو من الجوع الواحد!
كنت أتوقع تغيير أولويات الحكومة، فلا يكون أكبر همها هو توفير البنزين المدعوم لسيارات النخبة الخرطومية التي ملأت الشوارع حتى عجزت الحركة عن الانسياب، بل توفير الديزل للزراعة ولآليات الطرق وللمصانع. وأن يكون رأس الدولة شخصاً واحداً يمثل رمزية السيادة، وليس أكثر من عشرة أشخاص لا نعرف لهم مهام محددة.
كنتُ أتوقع تغييراً لمنهج “الغتغتة” وسيادة للشفافية والفعالية في نشر المعلومات للمواطن مباشرة بلا وسيط، خاصة في ظل الاهتمام المبالغ فيه بتغيير قيادات الأجهزة الإعلامية، إذ توقعنا تنويراً يومياً من وزارة الإعلام، ومنبراً أسبوعياً على الأقل بوزارة الخارجية، وخطاباً أسبوعيا متلفزاً لرئيس الحكومة، غير المؤتمرات الصحفية الطارئة وفقاً للمستجدات.
توقعنا في زمن الثورة، في ظل قيادتنا الجماعية بعد إسقاط حكم الفرد، أن تمور العاصمة والمدن بالمؤتمرات وورش العمل، لمناقشة مختلف القضايا، وحشد الخبراء والآراء، وتوسيع دائرة رسم السياسات واتخاذ القرارات، خاصة أن الحكومة ليست منتخبة وليس لديها برنامج مسبق تم التوافق عليه كما في حالة الأحزاب الحاكمة، فكان المتوقع من الحكومة أن تستثمر شعبيتها الكبيرة التي تقترب من الإجماع، لتعزيز الشراكة مع كل فئات المجتمع وقطاعاته وأطيافه، وإعطاء الخبز لخبازه في كل مجال: أهل الاقتصاد، ورجال الأعمال، وأهل الفن والثقافة والأدب، وأهل الدستور والقانون، وأهل الأكاديميا التعليم والبحوث، وأهل الزراعة والإنتاج، وغيرهم.
بالنسبة للمواطن، فقد سقطت نعم، أما ما تم من تغيير فهو مخيب للآمال. فقط غيروا أحمد بحاج أحمد.