كتبتُ من قبل عن صديقي السعودي المهندس عبد الرحمن محمد نور خوقير، عندما زُرته في مكتبه بمكة المكرمة في ١٩٩٢م، حيث بادرني بسؤال مُباغت وهو يا زول أنتم السودانيون حيّرتونا، نميري وقف مع السادات عندما زار السادات إسرائيل، والعرب ضد السادات، ففقد السودان الدعم العربي، وجاء الصادق المهدي وفي نظام ديمقراطي ١٩٨٦ ليزور إيران قبل العرب والسوفيت قبل أمريكا. وعندما كان العرب مع العراق في حربه ضد إيران وقف الصادق شبه مُحايد، وأمْيَل للإيرانيين. ففقَد أيضاً الدعم العربي. وهذا عمر البشير يقف مع صدام عندما غزا الكويت والعرب كلهم ضده. وكذلك فقد الدعم العربي.
ولا زال الحديث لخوقير يا زول أنتم شعبكم تعبان وهلكان وجوعان بدل ما تشوفوا مصالح شعبكم دائماً تقفون في المكان الخطأ.. انتهى حديثه.
طبيعي أن يكون ردّي رد أي سوداني عاطفي تأخذه الحمية السودانية. فقلت له هل تعلم أن جدّنا بعانخي في القرن السابع والسادس قبل الميلاد غزا مصر فقط عندما احتلها الليبيون، ولكنه عندما علم أن الخيول هناك تُهان بدل أن تُصان، وهذا أمرٌ تعدّى حقوق الإنسان إلى الحيوان، أكمل غزوه لمصر واحتلها تماماً. وهل تعلم أن ثورة المهدي في القرن التاسع عشر الميلادي قطعت رأس أكبر محتل بريطاني، ولم تأبه بالعواقب. وأنهيْتُ مُرافعتي بأننا كسودانييين لا نربط مصائرنا بمصائر الآخرين بقدر ما تكون قناعاتنا الشعبية هي مصدر اتخاذ حُكّامنا للقرار. وأعتقد أن نهايات مرافعتي مهمة للغاية. وهي أن الشعب السوداني تفكيره مُختلِف ومزاجه مُختلِف، ولا يرى كائناً من كان أفضل منه في الجنس وخير منه في الفكر، وأن معظم الكتاّب الأجانب والمؤرخين كلما ذكروا السودانيين ذكروا الاعتداد بالنفس والاعتماد على النفس.
من هذا المنطلق، جاء قرار البرهان الأخير الذي رأى أن يُقابل رئيس الوزراء الإسرائيلي في يوغندا. طريقة سودانية بحتة لا تعبأ بالعواقب من مضار وسوالب (جيل راكب راس)، بل لأجيال منذ ما قبل الميلاد، وهي راكبة راس. قرار برهان قرار خطير له ما بعده، ولكن في النهاية أنها سياسة القادة السودانيين من مقتل إسماعيل باشا الذي جاء بحملة الدفتردار الانتقامية التي قتلت من السودانيين ما يماثل معركة كرري. ومقتل غردون الذي جرّ علينا الانتقام إلى يوم الله هذا، غير القرارات الداخلية المزاجية في أن تعدم عشرات الضباط والمدنيين في محاكمات امتدت لسويعات قلائل. وهكذ قرارات نميري (أبوعاج )، الارتجالية التأميمية التي أضافت فرصاً وبعداً جديداً للانهيار الاقتصادي للبلاد بدل ما كان جنيهنا ٣ دولارات أصبح الدولار بمائة ألف جنيه. وقرارات الشريعة التي سُمّيت بقوانين سبتمبر١٩٨٣ والتي نبّهت الغرب لخطورة تطوّر الملامح الدينية في السودان. ومما زاد الطين بلة وباسم الدين جاء الإنقاذيون بشعار أمريكا روسيا دنا عذابها، في تواصل مع قرار الفريق عبود بوقف التبشير المسيحي في الجنوب. ويا ليت لو أدخلنا الجنوبيين في الإسلام.
ولا تنتهي القرارات السريعة والمُباغِتة بإعلان انضمام السودان إلى جامعة الدول العربية في بداية الاستقلال قرار حيّر العرب أنفسهم ولم يعجبهم، بل تعجبوا!! وهو القرار الذي أشعل فينا نار الأفريقانية إلى يومنا هذا، وهي تلتهِمنا وسبب كل البلاءات والابتلاءات. ولم نكد نفيق من مفاجأة قرار برهان لمقابلة نتن ياهو حتى تَفاجَأنا بقرار حمدوك رئيس الوزراء بطلب دخول السودان في الفصل السادس لميثاق الأمم المتحده. أعتقد أن عقلية الحاكم السوداني تحتاج إلى دراسة نفسية واجتماعية، لمعرفة سر الشخصية السودانية في اتخاذ مثل هذه القرارات التي قد نختلف أو نتفق معها، ولكنها بالتأكيد أصابت البلاد بمضادات عنيفة بعيدة المدى، أورثت السودانيين الجهل والتخلّف والمرض وتفشي الفساد والاستبداد.