في الوجه الآخر للرغيف!
تمثل ظاهرة الصفوف الطويلة أمام المخابز العاملة في إنتاج الرغيف مثالاً صارخاً على حجم المعاناة التي يتكبّدها المواطن في سبيل العيش الكريم، حيث يبدأ يومه بالبحث عن وسيلة نقل توصله إلى مقر العمل، ثم يعود منهكاً، وقد شارفت الشمس على المغيب للانضمام إلى الغبش الذين تراصوا بالعشرات برجاء الحصول على الرغيف، وهكذا تدور المعاناة على مدار الأسبوع، وليس هناك أمل يلوح في الأفق بحلول منطقية لأزمة الخبز بسبب الربكة التي تسود دائرة القطاع المعني بالخبز، والتي تضم غرفة الدقيق والمخابز وحماية المستهلك والمواصفات، ثم الأمن الاقتصادي وإدارة المحليات بالولاية الخرطوم، وكل الولايات، حيث نجد ممثلين لهذه الجهات في كل ولاية دون أن تكون مجتمعة على رؤية موحدة تحدد بموجبها أوجه القصور ثم العمل لإزالتها بما يُمكّن المواطنين من الحصول على الرغيف..
وتزداد الربكة حين يعلم القارئ الكريم أن توفّر الدقيق مربوط بالاستقرار المنشود للشركات العاملة في مجال إنتاج الدقيق مثل “ويتا” و”سين” و”سيقا” و”اليمامة”، حيث تواجه معظمها مشاكل مثل فالأولى نفذ بعض العمال فيها إضراباً عن العمل، بينما تأثر الإنتاج في بعض الشركات بسبب مشكلات الترحيل، ويزيد من ربكة المشهد أن تكلفة إنتاج الخبز واجهتها صعوبات نتيجة للزيادة التي طرأت على تكاليف الإنتاج مثل ارتفاع أجور العمال وارتفاع أثمان الزيوت والخميرة، أضف إلى ذلك أن الحصص المخصصة للولايات من الدقيق بما فيها ولاية الخرطوم تتعرض لسطو من نوع آخر, فهناك تصاديق بحصص من الدقيق لجهات وهمية يعادل ما يذهب إليها من دقيق ربع الحصة التي تحصل عليها ولاية مثل الخرطوم التي بلغ عدد سكانها أكثر من اثني عشر مليوناً..
والقول هكذا لن تتمكن حكومة الفترة الانتقالية من تجاوز أزماتها في الوقود والدقيق إن لم تقم بإجراء إحصاءٍ دقيقٍ لمعرفة عدد المواطنين ليس في ولاية الخرطوم فحسب وإنما في جميع ولايات السودان، لأن التخطيط السليم للتنمية والإنتاج وتقديم الخدمات الضرورية للحياة يبدأ من قاعدة بيانات إحصائية دقيقة تُتيح لصنّاع القرار النظر لمشكلاتنا من مرحلة مُتقدّمة وبمعرفة مسنودة بالأرقام عن الكميات المتاحة بطرف الحكومة في الوقت الراهن من الوقود والدقيق والحصة المطلوبة لكل ولاية، وسقف الإنتاج بالأرقام في الشركات العاملة في إنتاج الدقيق وحصص وكلاء التوزيع ثم “تفكيك” الحصص الوهمية التي تبتلع ربع حصة الخرطوم, فالعيب كل العيب أن يظل المسئول في قطاع حساس مثل الوقود أو الدقيق لا يعرف الكمية الموجودة بالأرقام، أو لا يعرف عدد مستحقيها المستهدفين بمنفعتها بالأرقام وكل ما يتكرّم به هذا المسئول من إجابات للأسئلة المشروعة التي يطرحها عليه الصحافيون هي أنه لا يعرف الكمية الموجودة بالأرقام كم.. ثم يضيف على استيحاء “عندنا إحصائيات بس أدونا زمن عشان نديكم ليها”..!
ليست هناك إحصائيات، ولكنها الطريقة المثلى للهروب من الأسئلة المشروعة, فكل مسئول مهما علا شأنه أو كان في مستوى أدنى يحاول أن يُبعد عن نفسه شبهة التقصير في إنجاز المهام بالصورة المطلوبة، مما يجعل الحصول على المعلومات في مثل هذه القطاعات من قِبل الجهات الرقابية والإعلام مهمة عسيرة وشاقة ويحتاج من يطلبها – أي المعلومات – الوقوف في صف طويل يشابه الذي وجدناه أمام المخابز..!