قبائلستان ١-٢
لم نكن على خطأ أبداً حين اكتشفنا منذ البداية أن حكومة ما بعد الثورة التي تقلّبت ما بين سلطة المجلس العسكري ثم حكومة حمدوك الإئتلافية معه تمثل امتداداً حقيقياً لحكومات السودنة الني أعقبت عهد ما بعد الاستعمار، حيث كان ينظر إلى شريط محدود من أحياء مدن الخرطوم الثلاث على أنها السودان، فيما يتم التعامل مع الأقاليم الطرفية على أنها أماكن خاضعة لانتداب حكّام العاصمة وتصوّراتهم المنغلقة على الذات. صحيح أن الحكومة الحالية يقودها متنفذون جاءوا للحكم (من وراء الجاموسة) كما يشير المثل المصري إلى الريف، لكنهم لا يحملون – للأسف- رؤية للحكم خارج هدف فرض السيطرة على الخرطوم بإرضاء سكانها وتخفيف صداع الأطراف ريثما ينتهي الصراع على الكراسي في العاصمة.
كان مُفتتح عهد ما بعد الثورة قاسياً جداً على مواطني الشرق، فقد اشتعلت نزاعات دموية غير مسبوقة في ولايات القضارف والبحر الأحمر، فيما تجلس ولاية كسلا الوادعة على بركان من الحمم يُؤجِّل انفجاره توازن الرعب ووفرة السلاح.
تعامَلت الحكومات مع كل تلك الأزمات تعاملاً (استشراقياً) مهيناً، إذ تجاهَلت أحكام القانون واستخدمَت عدداً من الانتهازيين الصغار (لا مناص من وصفهم بذلك) الذين ما انفكوا يقتاتون على قضايا أهلهم سحتاً يراه الجميع. تخلّت الحكومة المركزية، وتبعاً لذلك الحكومات الولائية، عن القوانين المكتوبة، وعن عهود الدولة الوطنية وعادت إلى عصر ما قبل الإدارة الاستعمارية الإنجليزية المصرية بإحالة النزاعات من طاولات القضاء وآليات العدالة العصرية إلى مفارش مجالس رجال القبائل، ومدّت السلطة يدها إلى جيبها فعقدت ألسنتهم – كالعهد بهم دائماً- بالمال. كان انتهازيو السلطة في الموعد تماماً فخدعوا أنفسهم وأطاعوا الحكومة بتصميم اتفاقيات عبثية أسموها (القلد) ولم يُكلِّف حُكّام الخرطوم أنفسهم بالسؤال عن ماهية هذا القلد!
هكذا حملت صحف الصباح العاصمية أخباراً عن توقيع اتفاق القلد بين تلك القبيلة والأخرى، ودرّبت المذيعات الحسناوات في فضائيات النخبة العاصمية ألسنتهن على نطقها ثم أغلقت البلاد أذنيها عن طنين الذي يجري في الشرق.
لعلم الحُكّام فإن القلد أو العهد بين القبائل لحل النزاعات هو آلية موروثة وناجحة مُلزمة لقبائل البجا الناطقة بالبداوييت فقط، وهو لحل قضايا الشجارات والنزاعات العنيفة، وبهذا المعنى فهو لا يُلزم النوبة وقبائل البجا الناطقة بالتقراييت وكريم الأعراق التي تعيش في شرق السودان.
من جانب آخر، فإن النزاعات التي اشتعلت في غير مكان بولايات الشرق لم تندلع بتفويض قِبلي، ولم تصدر بإطلاقها فرمانات من العُمد والنظّار وإنما هي أعمال إجرامية ينبغي أن يُساءَل عنها مرتكبوها وفقاً للقانون على ذات النحو الذي يحدث في الخرطوم. إن إحالة تلك الجرائم إلى مسئولية الإدارات الأهلية تحمل ازدراءً واضحاً للضحايا الذين راحت دماؤهم هدراً، وتحمل اتهاماً ضمنياً لرجال القبائل أنفسهم بالتورّط في تلك النزاعات.
ينبغي على السادة أعضاء مجلس السيادة ورئيس الوزراء أن يحكموا البلاد كلها بمنهج واحد، فإما دولة مدنية متحضرة تحكم بالقانون وتوقّر رجال القبائل وتسترشد بحضورهم ومحبة الناس فيهم، وإما عهد لملوك الطوائف والقبائل من أرقين إلى أبيي على قدم المساواة في الجهل والقهر والفساد والتخلّف وسلطة شيخ الغفر!