*في إحدى المقاهي بمدينة جوبا عاصمة دولة الجنوب، كان عدد من الإعلاميين السودانيين من الذين يتابعون مفاوضات السلام يحتسون بعضاً من القهوة والشاي، وبعد أن أرادوا دفع الحساب كانت الإجابة “عفواً الحساب مدفوع” تساءلوا من الذي سدد عنا هذه الفاتورة فكان أحد الإخوة من دولة الجنوب من الذين عاشوا أياماً طوالاً في الشمال قبل الانفصال.
*هكذا هم السودانيون وإن وضعت الاتفاقيات فواصل حدودية على الأرض، فإن قلوبهم وعاداتهم وتقاليدهم تظل كما هي نفس التي عند أهل شمال السودان تجدها عند أهل جنوب السودان.
*وطيبة أهل السودان ليست بالجديدة عليهم، ولا مكانها داخل نطاق الوطن وإنما عرف أهل السودان في كل الأصقاع بالطيبة والوفاء وحسن المعاملة، وإن كانوا في بلاد العم سام.
*هذه الطيبة والسماح تأثر بها ساسة بلادنا منذ الاستقلال وحتى اليوم، وأصبحت سياسة السودان ذات طابع “عفوي”، فما يوجد داخل وجدانهم يظهر على المعاملة الخارجية، وهذا ما أضر كثيراً بأهل السودان في الماضي والحاضر، وحان الوقت لتنتهي هذه “الطيبة السياسية” حتى ينعم السودان بخيره الوفير.
*من يتابع ردود الأفعال العربية والعالمية حول لقاء عنتبي بين رئيس المجلس السيادي الفريق عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يتأكد أن هذه الردود كانت قوية لأن أهل السودان عُرفوا منذ زمن بعيد بعاطفتهم تجاه القضية الفلسطينية وتداعياتها.
*حينما كانت الدول العربية ترفع أعلامها في تل أبيب معلنة عن فتح التعامل الاقتصادي والتجاري بينها وعاصمة إسرائيل كان أهل السودان يخرجون في المسيرات منددين بالاحتلال الصهيوني للقدس، وحينما ضربت إسرائيل مصنعاً في السودان كان نفس هولاء العرب يتفرجون ولا يفعلون شيئاً سوى إخراج بعض البيانات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
*سنوات طوال وساسة السودان يتعاملون “بطيبة” لا مثيل لها وينسون أن السياسة تقوم على المصالح وتبادلها، ولا تستند إلى المواقف العاطفية التي لم تخدم القضية الفلسطينية، ولم تنفع اقتصاد السودان.
*إن لقاء عنتبي – كما قال البرهان ــ فتح نفاجاً للعلاقات بين الخرطوم وتل أبيب، وبإمكان هذا النفاج أن يتوسع إن كان فيه مصلحة للسودان، وبالتأكيد لن يضر هذا بموقف السودان من القضية الفلسطينية، والعمل على حلها وفق ما تتطلبه الظروف.
*الفلسطينيون أنفسهم يتعاملون من مع هذه الدولة ويتبادلون معها “تجارياً”، وجل الدول المحيطة بها لها تعامل اقتصادي معها، فحلال لهم وحرام على أهل السودان؟ إنه منطق طيبة السودانيين الذي أضاع الكثير من الفرص على أهله في السابق ولا نريد إضاعة المزيد من الفرص.
*في العام 1990م، حينما دخل الرئيس العراقي صدام حسين الكويت تعاملت الحكومة السابقة “بعاطفة” وأيدت ذاك الاحتلال وهذا التعاطف آثاره لازالت موجودة في العلاقة بين السودان والكويت، ولا نريد تكرار مثل تلك العلاقات التي تبني على العاطفة، بل نريد قرارات تبنى على المصالح المشتركة، فإن كانت مصلحة السودان “اقتصادياً” مع اسرائيل فماذا يضير ذلك، والعالم العربي أجمعه يتعامل معها.
*رجاءً.. اتركوا العاطفة جانباً، وليكن التفكير بالعقل “المصلحي”، فإن أشار إليكم بتطوير العلاقة مع تل أبيب فليكن ذلك شرطاً أن تكون الفائدة ظاهرة على أهل السودان، وليس فائدة من جانب واحد، وبعدها يعود السودان إلى دوامة الأزمات الاقتصادية.