تابعت، وما زلت أتابع، قراءة ومشاهدة كل الأحداث التي أعقبت قرارات لجنة إزالة التمكين المُتعلقة بالمؤسسات الإعلامية. تعرفت على أغلب وجهات النظر المُتداوَلة وعلى كل كلمات الرأي والرؤى السياسية الصادرة من الداعمين للقرارات ولأولئك الناقمين عليها، فيما يلي تداعياتها على الحريات، أبرز مكاسب ثورة ديسمبر. حقيقة، أرهقتني هذه المتابعة لدرجة الإحساس بالتعب والفتور، وبقدر ما حاولت الكتابة عن الموضوع لم أجد ولو بصيص مساحة لأي قيمة مضافة. فقد قال الناس، كتابة وحوارات متلفزة أو حتى جلسات المؤانسة و”القعدات”، كل ما يُمكن قوله ولم يستبقوا شيئاً!
وعلى وجه الخصوص، حرصتُ على متابعة المؤتمر الصحفي للجنة إزالة التمكين وتفكيك نظام الإنقاذ، ظُهر الأحد 12 يناير 2020. بعد المتابعة، نقطتان فقط خطرا ببالي، قد لا يشكلان إضافة حقيقية، فقد يكون كثيرون قد أشاروا إليهما، ولكنهما قد يُسلِّطان مزيداً من الضوء على طبيعة القرارات ومنهج إصدارها، مما يُوسّع أو يُعمِّق الحوار حولها من أجل الفوز بفهم صحيح لمقاصد قرارات لجنة إزالة التمكين!
النقطة الأولى:
قدم المؤتمر الصحفي الأستاذ الرشيد سعيد، وكيل وزارة الثقافة والإعلام والاستاذ وجدي صالح، القيادي في قوى الحرية والتغيير، عنوان وهدف المؤتمر يتلخّص في التوضيح للرأي العام بأن هذه القرارات لا تستهدف الحريات الصحفية أو الخط التحريري للمنابر المحجوز عليها، ولا تستبطِن حجب الرأي الآخر أو مناصبة الصحفيين العداء. فقد اعترف مقدما المؤتمر الصحفي للجنة بوقوف هؤلاء مع الثورة وظلوا مُشاركين في كل فعالياتها، والإشادة وبمساهماتهم الفعالة في وصولها إلى نهاياتها المنطقية. إنما تقصد هذه القرارات التحقيق ومراجعة ملكية هذه المؤسسات، من أصول وحسابات، إذ توفّرت معلومات، وليس مجرد اشتباه، بأن هذه الواجهات تم تمويلها من أموال الشعب السوداني. فاللجنة غرضها الوحيد هو استرداد أموال الدولة والشعب، وهو أمر يستدعي فقط التحفّظ مؤقتاً على هذه المنصات وليس مصادرتها.
لم أجد في كل التعليقات والتعقيبات حول الموضوع أحداً يختلف مع هدف إزالة التمكين بغرض فطام الحزب الحاكم (المنحل) من ثدي الدولة وفك قبضته على مفاصل الدولة في كافة مستويات الحكم. فمن البديهي أنه من المستحيل تحقيق أهداف الثورة في التغيير الحقيقي بدون فك قبضة الحزب الحاكم ومشايعيه من أجهزة ومؤسسات الدولة. حقيقة، فقد ظل تفكيك النظام هو الشعار الذي توافقت عليه كل القوى السياسية طوال مسيرتها في معارضة النظام.
ومع ذلك، فثمة سؤال جوهري، طرحه كثيرون، يطل برأسه ولم يجد إجابة شافية من قبل لجنة إزالة التمكين:
لماذا لا يستمر نشر “السوداني” وبث “قناة الشروق”، مثلاً، حتى يتم التحقيق والمراجعة التي أسهب في شرحها مقدما المؤتمر الصحفي. فقد درج مكتب المراجع العام على تقديم تقاريره السنوية منذ تاريخ إنشائه، فهل كان يوقف عمل المؤسسات التي يراجع حساباتها؟
وإن كانت هناك تهمة موثقة، فلماذا لا يترك الأمر للنيابة العامة وصولاً إلى ساحات القضاء؟ فما هو الداعي لتقمص لجنة إزالة التمكين دور النيابة والقضاء والمراجع العام في التحقيق والتقصّي وإنزال العقاب المستحق، والاستئثار بالقرار بدون امتلاك اللجنة للحقائق الكاملة والحيثيات الشاملة؟ وهو ما تم الاعتراف به خلال المؤتمر الصحفي!
وفي معرض الدفاع عن قرارات اللجنة بحجة أن لا علاقة لها بمضمون ومحتوى ما تقدمه هذه المنابر للقراء والمشاهدين والمستمعين، أقحم المتحدثان في المؤتمر الصحفي الإشارة إلى إذاعة الفرقان للقرآن الكريم. فشددا على أن اتهام اللجنة بوقفها عن البث الإذاعي ينم عن الغرض السياسي الرخيص لمروّجي مثل هذا الاتهام. فحقيقة الذي حدث أن العاملين بالإذاعة هم من “جر السلك
من السوكيت” بغرض توفير الوقود اللازم لإشعال الفتن بين السودانيين.
فإن لم تصدر اللجنة قراراً بوقف بث إذاعة القرآن الكريم حتى لا تحرم الجمهور من الاستماع، فلماذا تحرم قراء السوداني ومشاهدي الشروق من حقهم الاختياري في القراءة والمشاهدة؟ فإن نحّينا جانباً مُحرري الأخبار والصحفيين والكتاب والمذيعين ومقدمي البرامج التلفزيونية، ما ذنب القراء والمشاهدين حتى يطالهم العقاب بالحرمان من متابعة من يروق لهم من كتاب الرأي ومحرري الأخبار والحوارات المتنوعة وما يختارونه من برامج تلفزيونية محببة إلى نفوسهم؟ فهل عملت إدارتا الصحيفة والقناة، أيضا،ً على جر السلك من السوكيت، أم إن لجنة إزالة التمكين هي من سحبت السلك؟
النقطة الثانية:
تشكلت لجنة “إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال” برئاسة الفريق ياسر العطا، وعضوية كل من: محمد الفكي (نائباً للرئيس)، ووزير مجلس الوزراء، إضافة لأعضاء ممثلين لوزارات الدفاع والداخلية والعدل والحكم الاتحادي، والمالية والتخطيط الاقتصادي، والمخابرات العامة، وقوات الدعم السريع وديوان المراجع العام، والبنك المركزي، إضافة إلى خمسة ممثلين عن قوى الحرية والتغيير. تصدر هذه اللجنة قراراتها بالأغلبية العادية، وفي حال تساوي الأصوات يكون صوت الرئيس هو المرجح!
المفارقة، أن رئيس اللجنة وناطقها الرسمي، الفريق العطا، لم يظهر أبدًا في حوار مكتوب أو مبثوث إذاعياً أم تلفزيونياً، ولم يدلِ بأي تصريح صحفي، ولو باقتضاب، والبعض يقول بأنه لم يشارك أصلًا في الاجتماع الذي صدرت منه القرارات. كما أن المؤتمر الصحفي باسم اللجنة قدمه وأداره شخصان، هما وكيل وزارة الإعلام والثقافة (وهو ليس بعضو فيها) وعضو اللجنة أحد ممثلي قوى الحرية والتغيير الخمسة، الأستاذ وجدي صالح. بينما هما الاثنان من قيادات التحالف الحاكم، غاب عن فعالية المؤتمر الصحفي رئيس اللجنة، الفريق العطا، ونائب رئيس اللجنة، عضو مجلس السيادة، الأستاذ محمد الفكي.
في أواخر ديسمبر 2019، قال نائب رئيس مجلس السيادة، الفريق أول حمدان دقلو، مخاطباً المصلين عند افتتاح مسجد عثمان بن عفان في الخرطوم بحري، إن سلطتهم في المجلس السيادي تشريفية محملاً مجلس الوزراء (المدني، ما عدا وزيرين) مسؤولية تدبير معاش الناس والعباد، فهل رئاسة الفريق ياسر العطا للجنة إزالة التمكين أيضأ تشريفية، بمعنى أن قرارات اللجنة يُسأل عنها المدنيون ويتحملون تبعاتها؟
يبدو أن في الأمر إنّ!