بعضُ الأصدقاء متفائلون بأن الاقتصاد السوداني سوف ينهض من كبوته قريباً، خاصة بعد رفع اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، وأن الدولار سوف ينهار أمام الجنيه، لأن المليارات ستنهالُ على السودان من المانحين ومن صندوق النقد وكل مؤسسات الإقراض.
حين كتب محمد المكي إبراهيم قصيدته المتفائلة تلك، كنا أيضاً في فترةٍ من اليوفوريا (الفرح) الوطني والزهو الثوري، قبل خمسين عاماً وأكثر. وكان الظن أن ذلك الجيل الذي جمع بين البطولات والتضحيات، أو “جيلي أنا” كما نعته الشاعر مُفاخِراً به، سوف يملأ الأرض رخاء ورفاهاً، لأن الحقول سوف تشتعل قمحاً ووعداً وتمنياً.
لماذا لم يحدُث ذلك؟ ثم لماذا لم تتحقّق نبوءة الشاعر الآخر، في غمرة اليوفوريا التي أعقبت أبريل 1985، بأن يصبح الوطن عاتي وخيّر وديمقراطي، ويتحوّل السجن إلى مستشفى والمنفى إلى كلية والطلقة إلى عصافير تُمازح شُفَّع الروضة؟
لم يحدث ذلك، لأن هذا هو الشيء الطبيعي. فالحقول لا تشتعل بمجرد تغيير النظام، والقمح لا ينمو بالأناشيد والهتافات، والوطن لا ينهض بالأشعار والوهم النبيل.
تحتاج النهضة إلى العمل. ويحتاج العمل إلى خطة محكمة وفريق عامل في تكامُل وتعاوُن وتنسيق. فإذا كُنّا لا نملك أي خطة للنهوض سوى التعويل على المعونات والهبات والقروض والمنح، وإذا كنا طوائف وفصائل وأحزاباً مُتصارِعة ومُتحارِبة ومُختَصِمة، ينفي بعضها بعضاً ويُقصِي بعضُها بعضاً ويلعنُ بعضُها بعضاً، وإذا كُنّا لا نملك أي مهارات للعمل والإنتاج، إذ لدينا 70 جامعة وكُلية، ليس بينها معهد تقني واحد لتخريج العمالة الماهرة، فلا نتوقّع أن تنبت الحقول من تلقاء نفسها، وتُضاعف إنتاجها، وتحصد نفسها وتُصدّر نفسها لتعود لنا بالعملات الصعبة.
هكذا نهضت ألمانيا بعد الحرب، واليابان، والصين، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وماليزيا، ورواندا القريبة. لم تكن عندهم مواكب ومسيرات مُستمرّة، ولا مهرجانات أشعار ولا متاريس في الطرق. ولكن كانت عندهم خطط للنهوض، وإرادة مُخلصة للعطاء والاجتهاد. كانت عندهم أيدٍ مُدرّبة ومُستعدة للعمل في المصانع والمزارع، وصبر على العمل وبذل الجهد، واعتماد على النفس، واستقرار سياسي ومجتمعي، وتوافُق بين كل فئات الشعب على خطة النهوض.
نحن نستورد كل شيء، حتى دقيق خبزنا، ولا نملك من مصادر العملات الصعبة التي نستورد بها، سوى المنح والهبات. نحن أقرع نزهي: نأنف من أكل الإنتاج المحلي من القمح والذرة، وليس لدينا من سلع الصادر سوى الأشعار وتغريدات الوسائط!
وهذه المرة حتى شاعرنا لم يغنِّ للحقول الواعدة ولا كنوز الأرض التي ستنفتح على يدينا. ومع ذلك يحلم البعض بالرفاه ينزل من السماء، وبالدولار يتوفر وينخفض أمام عملتنا حتى لا يجد الناس له مشترياً ولا طالباً!
متى يستيقظ قادة الرأي ويصارحوا الشعب بالحقيقة؟ متى ندرك أنه ليس بالشعر والشعارات وحدها تنهض الأمم؟ متى نعمل فعلاً للنهضة ولا ننتظرها لتهبط علينا: نعمل لها خطة واتفاقاً ونعد لها الأيدي المدربة ونشمر لها السواعد وننزل إلى الحقول والمصانع؟
تريدون الخروج من النفق؟ دعوا إذن الجدل والهتاف، وقوموا إلى حقولكم يرحمكم الله.