* بعد تشكيلِ حُكومة الثورة بأسابيع، كتبتُ بالنص: قريباً، سوف تُفاجأ حكومة حمدوك بأن حفر بئر نفط في أدغال الجنوب يستدعي (إذن الناظر)، وأن زَرْع حوض برسيمٍ في فيافي الشمال – التي لم تطأها أقدام إنس ولا جان – قد يستدعِي (مُوافقة العمدة)، وأن تركيب مصنع اسمنت على حافّة جبال الشرق قد يستدعي دخول المستثمرين إلى قاعات المحاكِم مع (أهل قرية).. وهكذا.. أين تنتهي حدود (مِلكيّة الفرد)، بحيث تبدأ حدود (ملكية الدولة)؟.. للأسف في بلادنا لا تنتهي..!!
* واليوم، على سبيل المثال الراهن، فيما تبحث حكومة بلادنا عن دُرَيهِمات تسُدّ بها فجوة الميزانية، تتحدَّث الأخبار عن تظاهُرة لبعض مواطني تجمع ريفي غرب أمدرمان، ثم قطع طريق شريان الشمال – الخرطوم ـ دنقلا – أمام العربات، ثم حرق الإطارات في الشارع لحد توقُّف حركة المرور لساعات طويلة.. وكل هذا الغضب مُرادٌ به رفض الاستثمار في مساحة قدرها ( 10.930 فداناً)، صدَّقت بها الحكومة لمستثمر عربي..!!
* هُم يسمّونها بالتغوُّل، ولكن هذا المستثمر المغلوب على أمره لم يتغوَّل، بل تقدَّم بطلب الاستثمار، فحدَّدت له السلطات الحكومية تلك المساحة بمنطقة أبوضلوع الواقعة في أقصى شمال الخرطوم.. يرفضون الاستثمار بالتظاهُر وقطع الطريق، وليس هناك تبريرٌ للرفض غير أن هذه المساحة (منطقة رعوية).. تأمَّلوا تبريرَهم.. فالفيافي – في تلك المنطقة – على مد البصر شمالاً وغرباً وشرقاً، ومع ذلك لم يجدوا منطقة للرعي غير المساحة المُستهدفة بالاستثمار ( 10.930 فداناً) ..!!
* والأدهى، ما يُطالِب به عمدة المنطقة عبيد حماد.. فالعمدة يُطالب الحكومة بنزع هذه المساحة – 10.930 فداناً – من المستثمر، وتسجيلها بما جاوَرها، على امتداد (70 كلم)، باسم حكومة السودان، لتُصبِح مرعىً للماشية.. ولا نُعاتِب العمدة على التخطيط والتوزيع (كما يشاء)، بحيث تكون هذه المساحة زراعية، وتلك للمراعي وغيرها للسكن.. لا نُعاتِب العمدة، فالشاهد عندما وَهَنتْ مؤسسات الدولة وغابَتْ عن أداء دورها (كما يجب)، أصبحت تعليمات العُمدة ومُظاهرات رعيّته هي (المؤسسات)..!!
* المهم، طوال عقود النظام المخلوع، كان وراء كل مستثمر هَرَب بجلده مثل هذا التصرُّف، أي غضب الأهالي .. ليبقى السؤال، إلى متى يأتي المُستثمِر إلى بلادنا، ويدفع ما عليه من رسوم ويستلم الأرض من السلطات، ثم يقِف مع الأهالي في المحاكم أو يهرُب خوفاً من حرق مشروعه كما حدث لمعاوية البرير بولاية سنار؟.. ثم إلى متى يُمارِس بعض الأهالي دور (مخلب القط)، بحيث يتسببُّون في تعكير مناخ الاستثمار بالتظاهُرات وقطع الطرق وغيرها من المظاهِر الطاردة..!!
* الأرض في السودان لا تملكها الدولة، ولا تنظّمها الأجهزة والقوانين كما تنص دساتير دول الدنيا والعالمين، بل تملكها القبيلة، ليتصرّف فيها العمدة أو الناظِر كما يشاء.. وامتلاك القبيلة للأرض من معيقات الاستثمار في بلادنا.. ولن تتطوّر البلاد بحيث تدخُل في موسوعة الدولة الحديثة التي يستفيد كل شعبها من كل أرضها، ما لم نؤسس دولة المؤسسات.. ولن ينهض الشعب في ظل ثقافة تمنح للقبائل سُلطة وضع يدها على أرض بمساحات بعض الدول..!!