تبايُن الرأي في لجان المُقاومة.. ظلال وأبعاد
لاقت دعوة تجمُّع المهنيين السودنيين إلى تسيير موكبٍ يوم السبت الماضي بغرض حَث الحكومة، أو بالأصح الضغط عليها لما وصفته باستكمال هياكل السُّلطة الانتقالية وإنجاز مَهَام التحوُّل الديمقراطي بقيام المجلس التشريعي وتشريع وتعديل بعض القوانين المُهمّة.
بيد أنّ هذه الدعوة لاقَت تبايُنات في وجهات النظر بين القوى السياسية وحتى داخل منظومة الحُرية والتّغيير، التي ينضوي إليها تجمُّع المهنيين، لكن ربما المُفاجأة أنّ تلك التبايُنات شملت حتى لجان المُقاومة في كل من منطقتي برِّي وأم درمان، فقد أحجما عن المُشاركة في المَوكب، وأصدَرَا بيانات، أوضَحا فيها وجهة نظرهما، حيث أشار بيان منطقة برِّي إلى تمسُّكهم بميثاق قوى الحرية والتغيير، وأوضحوا رفضهم لما اعتبروه مُزايدة وتمرير أجندة ومُحاصصات، مُشيرين بأنّ البلاد ما زالت تتلمّس بداية الطريق لدولة القانون والمُؤسّسات، كما طالبوا بإعلان الأسماء المُرشّحة لتشكليل المجلس التشريعي وتعيين الولاة تكريساً لمفاهيم الديمقراطية لدى الجماهير، كما التقت لجنة المُقاومة بأم درمان مع هذا الطرح فيما يتعلّق برفض الأجندة الذاتية والمُحاصصات، ثُمّ استنكرت القيام باستدعاء سلاح الاحتجاج والمَواكب الذي كانت تَشهره الجماهير ضد النظام السابق، وطالبت بتنبي منهج الشفافية، وأعلنت تفهُّمها للتحديات التي تُواجه الفترة الانتقالية.
ربما اللافت للانتباه لأيِّ مُراقبٍ سياسي هو تبني بعض لجان المُقاومة الثورية خَطاً مُعتدلاً في خضم الأجواء الثورية والشعبية المتململة من جَرّاء إسقاطات تجربة الحكومة التي تُحاصرها التحديات الكبيرة اقتصادية وأمنية وسياسية ومُستحقات كُبرى إنجازها ما زال في رِحم الغَيب.. بينما بالمُقابل أن ينتهج تجمُّع المهنيين نهجاً راديكالياً تجاه الحكومة هُو جُزء من لحمتها وقَريبٌ من وقع خطواتها وملمٌ بالمَطَبّات الظاهرة والمُستترة كافّة، التي تُواجهها.. مُتناسياً أنّ قيادة دَفّة الحكم لا تُحرِّكه وقود المبادئ المُجرّدة ولا النوايا الحَسَنَة وحدها، وإن ترجمة الشعارات المثالية المرفوعة إلى واقعٍ ماثلٍ لا يُمكن أن يتم بطريقة فتح مزلاج الأبواب والولوج في هُدُوءٍ، فهو يحتاج إلى قدرٍ من بعض التنازُلات الشكلية والاتّكاءات البرجماتية الحميدة، ولهذا فإنّ الحزب الشيوعي بعد مرحلة رحيل زعيمه المحنك محمد إبراهيم نقد يبدو أنه افتقد شيئاً من الرؤية الاستراتيجية الناضجة التي تفصل بين المواقف المبدئية النظرية وبين واقع التجربة على الأرض، وهو ما وقع فيه الحزب الشيوعي حينما اعترض على ميثاق الفترة الانتقالية ومُشاركة العسكريين الذي أملاه الواقع الفعلي، حيث أنه لم يَستوعب “ماكنزيم” المُفاوضات ومُتطلباتها وظلال بُنُود ما تَمّ التّوصُّل إليه وبلورته على الواقع الفعلي عند التطبيق، كما أهمل قُدرة الإرادة الجماهيرية على حراسة ما تم الاتفاق عليه، وعدم إمكانية الردة والعودة الظلامية مُجدّداً لعهد تمّ قبره برتلٍ من الشهداء وعرق سال في ميدان النضال السلمي، وليس بعيداً عن هذا الطرح هو تجمُّع المهنيين الذي لم يكن بعيداً عن تلك الرؤية الراديكالية التي تُريد حرق المراحل بتجاهلُها للواقع الصعب وتضاريسه الوعرة التي تُواجه الحكومة الانتقالية التي تحتاج إلى تقديم النُّصح وتوجيه النقد الإيجابي بعيداً عن شباك المُزايدات السِّياسيَّة التي تُريد أن تتّخذ المد الثوري الشعبي آلية تتحرّك بالإشارة حول رؤى قد يكون مُختلفاً حول منهجيتها ومواءمتها لحركة الإصلاح المنشود وفق الواقع الظرفي المُتقلِّب والمُلبّد بالغُيُوم، عِوَضَاً عن أن تنظر لهذا الزخم الشبابي برؤيةٍ تحترم وعيه الذي أذهل العالم وحقه في التعبير التلقائي دُون وصاية تسلب إرادته وتَجعله في خانة الفصائل التي عُرفت تاريخياً بالغرق في حضرة زعمائهم حتى الممات.