انتصرت ثورة الشعب السوداني واستطاعت إسقاط النظام وإقامة حكومة انتقالية، واجبها تغيير ممارسات النظام السابق، وإبدالها بسياسات هدفها إقامة الحريّات والعدالة وتحقيق السلام في كل أنحاء البلاد.
الثورة تغيير إلى الأفضل. فهي مثل الإسلام، تأتي مُتمّمة لمكارم الممارسات والسياسات. فهي ليست تغييراً عشوائياً، يُسارِع إلى اقتلاع كل شيء، كالمباني والطرق والجسور باعتبارها إرثاً من النظام السابق، ولا إلى محو المشروعات الزراعية والمؤسسات التعليمية والجامعات مثلاً. وفي مجال الخدمة المدنية، تسعى الثورة إلى إعادة العمل بقوانين ولوائح الخدمة التي تكفل عدالة المنافسة والتعيين وفق الكفاءة والمعايير النزيهة، وليس وِفق التمكين والمحاباة والمحسوبية.
المجلس القومي السوداني للتخصّصات الطبية، الذي قام بدور كبير في رفد البلاد بآلاف الأطباء الاختصاصيين في بضع وثلاثين تخصصاً عاماً ودقيقاً، يقوم على العمل فيه عدد من خيرة علماء وأطباء البلاد. ويتكوّن من عددٍ من المجالس الفرعية لكل تخصص طبي. ويتولّى هذه المجالس، كما يتولى تدريب الأطباء النواب، كبار الأطباء من الذين صمدوا داخل السودان، وظلّوا يُقدمون عطاءً باذخاً في مجالات الخدمة الطبية والبحث العلمي، إضافة إلى تدريب عشرات الأجيال من الأطباء في مختلف التخصصات. ويعمل هؤلاء الخيرون من ملائكة الرحمة وورثة الأنبياء، تطوّعاً بوقتهم وعلمهم. ونعلم جميعاً أن الواحد من هؤلاء يستطيع أن يحصل على مئات الآلاف في ساعات قليلة إن شاء، من عمله في مجال تخصّصه، بدلاً عن التطوّع للتدريب المجاني.
للأسف فقد أصدرت قيادة مجلس التخصّصات الجديدة، قراراً ثورياً، بحل جميع مجالس التخصّصات، وفقاً لأهداف الثورة كما جاء في ديباجة القرار. غرَس هذا القرار خنجراً غادراً في صدور أعضاء مجالس التخصّصات السابقين، لأنه قدم لهم جزاء سنمار، فاعتبرهم من بقايا النظام وأعداء الثورة الذين يجب التخلُّص منهم تنفيذاً لأهداف الثورة. علماً بأن أغلبهم كانوا من داعمي الثورة، بل من أوائل روّادِها. فلجنة الأطباء المركزية، ولجنة النوّاب ولجنة الأخصائيين، هي في الحقيقة النواة الفعلية التي قام عليها تجمُّع المهنيين، وكان لها القدح المعلى في الإضرابات والمسيرات والاعتصامات. لقد كان بعضهم، وأخص منهم بالذكر بروفيسر عبد الله جابر رئيس مجلس الأشعة، كانوا هم حماة الأطباء، الذين وقفوا ألفاً أحمر في وجه من أرادوا محاسبة النواب أو فصلهم أو وقف تدريبهم. ومثلوا النقابة الشرعية للأطباء، وكانوا صوت الأطباء حين غاب صوتهم ونقابتهم.
لقد أهانت قيادة المجلس الجديدة بقراراها الأرعن، عدداً من أفضل علماء الطب في السودان. ظلوا يعملون عبر السنين بتجرّدٍ وإيثارٍ ونكران ذات، بلا منٍّ ولا أذى. وبدلاً عن شكرهم وتكريمهم، تم طردهم بخطاب من ثلاثة سطور تحت شعار التطهير الثوري، مما يدُل على قلة الخبرة الإدارية وقلة الاعتبار للزملاء، الذين نؤدي جميعاً القسم كأطباء على احترامهم وتقديس الرابطة المهنية بيننا وبينهم. وتدل على الاستعجال والتخبّط، وسوء الفهم لمعنى الثورة ومعنى التغيير.
والمشكلة الأكبر ستنشأ الآن، إذ أعلن أغلب الأساتذة من كبار الأطباء، من أعضاء المجالس السابقة ومن غيرهم من الزملاء، عدم التعاون مع المجلس الجديد، وعدم الاستعداد للمشاركة في المجالس الجديدة ولا في التدريب. وبذلك فإن صرحاً ضخماً ذا دورٍ خطيرٍ مثل مجلس التخصصات الطبية، صار مُعرّضاً الآن إلى فقدان دوره تماماً، وصار الأطباء المتدرّبون في مهب ريح الضياع واختلال التدريب وفقد الصلة مع أفضل العلماء والمدربين في البلاد.
ربما جاز لنا أن نعدل قليلاً في أبيات الشاعر أحمد مطر، فنقول إن غاية القصور في الثورة، أن تستخدم الثورة في الأجندات الشخصية الضيقة.