مَاتَ العقاد.. فانفض مجلسه الذي كتب عنه أنيس منصور (في صالون العقاد كانت لنا أيام).. وساح في أرض الأسى كثيرٌ من رُوّاده.. ومنهم أنيس هذا نفسه، الذي قال إنّه كان يتيه في الطُرقات لا يلوى عَلَى شيءٍ.. وفي يوم طرقت أذنيه أغنية (سواح) من أحد المقاهي.. فتذكّر أنّها أغنيته المُفضّلة من بين أغاني صديقه عبد الحليم حافظ.. وكل الأغاني.. فهي تُعبِّر عنه حاله؛ واقعاً ومجازاً.. فقد ظلّ يسيح من مدينةٍ لأخرى – وهو صغير – بمعية والده الذي كان كَثير التنقُّل.. ومن دولة لأخرى حتى كان مُؤلفه (حول العالم في 200 يوم).. ومن صحيفةٍ لأُخرى حيث تنقّل – ذات مرّةٍ – بين ثلاث صُحفٍ في يومٍ واحدٍ.. ومن مواقف فكرية لأخرى.. إلى درجة أنه اختار لعموده الصحفي اسم (مواقف).. وفي مُصادفةٍ غريبةٍ هي أغنيتي الأثيرة كذلك.. وللسبب المجازي هذا ذاته أيضاً؛ لا العاطفي الذي عناه شاعرها محمد حمزة.
والسياحة من هذه الشّاكلة تنم عن قَلَقٍ.. وشتّان بين قلقٍ خلاقٍ مُنتجٍ.. وآخر منتوجه الوحيد هو إيذاء صاحبه؛ نفسياً وجسدياً.. وقلقي الشخصي يقودني دوماً من موقعٍ إلى آخر.. وأعني هنا مواقع عمل؛ كمثل تنقُّلي الدائم بين الصحف.. وقديماً بين المصارف.. كما يقودني من موقفٍ فكري إلى ثانٍ.. فثالثٍ.. فرابعٍ.. ثُمّ لا ألعن أيِّ موقفٍ وقفت به حيناً؛ فذلك من تجربة المسير الحياتي لذي القلق.. ولكن التنقُّل بين الصحف هذا كانت دوافعه سياسية في الغالب.. إما جرّاء تأثيرها على العمل الصحفي.. وإمّا لتقليصها مساحة حُرية الرأي فيه.. وإما – وهذا سبب ثالث – بسبب قرار بالحجب.. حجب الرأي هذا حجباً مُتواصلاً.. أو مُتتالياً؛ أو حجب صاحب الرأي نفسه.
ومن تبعات هذا الحجب حجب المُرتب.. وقد اُضطررت إلى بيع أكثر من سيارة – بالأقساط – كنتيجة حتمية للحجب (الكلي).. بينما الذين يُنادون بالحُريات الآن – من زملائنا – ما كانوا يُحجبون.. ولا هم يُحجبون الآن أيضاً؛ ورغم هذا يحسبون كل صيحة – بظلم الماضي – عليهم.. بل ويسلقون الثورة – وحكومتها – بأسلحة أقلام حِدَاد.. وإخوانهم – من الساسة – يسلقونها بألسنتهم.. ويصيحون بحُريات تذكروها فجأةً.
ومات نظام الإنقاذ.. فانفض مجلسٌ يكتب عنه بعضهم الآن تحسُّراً (في صالون البشير كانت لنا أيام).. وساح في أرض الأسى كثير من رُوّاده.. أما أنا فقد استقرّ بي المقام في العزيزة (الصيحة) مرةً أخرى.. فأنا سواح!!.