حينما كان سامي عز الدين يخطو خطواته الأولى نحو قلوب عاشقي الأحمر الوهّاج، كان هدفه (الاستروبيا) يتهادى إلى شِبَاك الند التقليدي وكانت الخرطوم الحمراء تُغنِّي بصوتٍ ولحنٍ واحدٍ شماتة ومُكايدة:
(جوبا مالك عليا
جوبا شلتي عينيا؟!)
فَقد كان الهلال وقتها مُدجّجاً بأساطيره (قاقرين والدحيش وكسلا).. وأراد الجنرال حسن أبو العائلة صاحب (يا سيدة لا) أن يضع بصمته ويحدث ثورته فَحَدَثَ ما حَدَثَ..
فما الذي يَحدث الآن في جوبا بعد مُضي نحو 43 عاماً من هدف سامي؟!
(وباقي دقيقة وسامي بجيبا)
43 عاماً هو زمن يناهز عُمر حميدتي.
بعد كل هذه السنوات نعُود إلى جوبا وجوبا لم تعد جوبا.. وبعضٌ من رحيق الأمس ضَاعَ وكَثيرٌ من الوشائج والتراتبيات والترتيبات..
في العام 77 كُنّا حُضُوراً لافتتاح جامعة جوبا وها نحن نعود لافتتاح دفتر أحزاننا الأبدي..
قال مبارك الفاضل إنّ ما يحدث في جوبا مُجرّد (طق حنك).
ومبارك الذي أدمن الاستقلاب والانقلاب وهو دائم الوقوف أمام (مرايته) لا يعرف ولا يُريد أن يعرف أن ما جرى هناك مُؤثِّر على مجمل مشهدنا، وإن بدأ بلا جمهور ولا قاقرين وسامي عز الدين ولا كاس محمولة جواً إلا من كؤوس الخرطوم المُنتظرة في باراتها المعلنة..!!
لو قالت جوبا بالأمس أو غداً:
(خَلاص اتّجمعوا القلبين…
خَلاص إتوحّدوا الأملين
وأصبحنا رغم البين…
رُوح واحدة في جسدين)
فسنصدِّقها ولن تجد أحداً (يَحُكّها) معاهم..
المُهم أن يُوقِّعوا على ما يُفيد بأنّه التآم شملنا إلى السلام..
وحتى ولو كان ذلك ليس كذلك..
بمعنى حتى ولم يَقُدنا التوقيع إلى حيث السلام وبالناس المسرة..
المجتمع الدولي يُريد أن يخلص من حجوة (أم ضبيبينا) والحركات المُسلحة.. دُول الجوار ملّت احترابنا على التُّخُوم..
والخرطوم بَاتَت تتقلّب عَلَى نَار البُعدِ والغُربة وبين اليقظة والأحلام تتهجا بلا قلب تلك العبارات المُتداولة المُميتة:
(كتلوك ولا جوك جوك)..
يضجرها الآن انتظار المصائب..
وأصبح سياناً عندها (الاعتصام) و(فض الاعتصام) من فرط ما تساوت الخيارات واسودّت الطرق!!
اتفاق السلام الجاري إنفاذه من جوبا سيعود (إنفاقاً) إلى عصب الخرطوم العصية والجميلة ومُستحيلة.. الخرطوم التي أشفقت على فُرسانها الخُلصاء من هول ما أصابهم من ظَمأٍ ونصبٍ ومخمصةٍ، فقرّرت أن تنازل (أحلام ظلوط) بذاتها وتصدّهم.. و(تكمِّل لي أيِّ زول فهمو)!!
وأن تكسر لكل مُتطاول سهمو..
وهي عميقة بما يكفي عميقة و(دافنة دقن).. تعرفهم وخباياهم والأطماع.. وتستطيع التفريق جيداً ما بين الغزل (العفيف) و(العنيف) والتحرُّش ومُحاولة الاغتصاب.
تمتلك الندى كما تعرف كيف ومتى تشهر أسيافها..
دولة السودان العميقة حقاً لا ترضى بـ(العَمَالة) ولا تعرف كبيراً غير الله.. فمن كان يؤمن بالسودان فإنه ها هنا لا يبارح..
(تَمُرّ بكَ الأبطالُ كَلْمَى هَزيمَةً
وَوَجْهُكَ وَضّاحٌ وَثَغْرُكَ باسِمُ)
بلدنا فاهمة كل حاجة.. حتى خبايا النوايا والطموح والسحر الأسود..
(لو النفوس اتطايبت فالعنقريب بشيل مية) ولا بنحتاج (لا لي درقة لا سيف)..
وفي ذلك فليتنافس المنافسون.