في حُمَّى الذَّهَب..!
“أما الوفرة فهي في متناول اليد إذا أحسن المرء العثور عليها .. وأما أسوأ أشكال الفقر فهو فقر أصحاب الياقات وربطات العنق، لأنه فقر لا بد من التستّر عليه” .. إيزابيل الليندي..!
بدأت “حُمَّى الذَّهَب” في أمريكا عندما تم اكتشاف المعدن البَرَّاق في بعض مجاري الأنهار بكاليفورنيا في العام 1849م، وبانتشار الخبر في الصحافة حدث الهروع الكبير، وهاجر الآلاف، على متن القطارات والسفن والعربات ــ وبعضهم ساروا على الأقدام ــ طمعاً في تحقيق أحلام الثراء بالتنقيب عن الذهب. وقد اغتنى الكثيرون بالفعل، قبل أن تسود الصراعات وتنتشر أعمال السطو، ثم تضاءلت كميات الذهب، وتضاءلت فرص الحصول عليه بسبب احتكار بعض الشركات الكبرى وسيطرتها على السوق.
“حُمَّى الذَّهَب” في كاليفورنيا، انتهت في العام 1855م، بعد أن تطورت الولاية بفضل استقرار الكثير من التجار ورجال الأعمال فيها، وبعد أن تحولت أحداثها إلى قطعة مطرزة في قماش الذاكرة، استلهم منها بعض الأدباء والكتاب حكايات عديدة، ظلَّت تُروى ..!
وفي روايتها الساحرة “ابنة الحظ” خلَّدت الأديبة التشيلية الفذَّة “إيزابيل الليندي” تجربة الهجرة إلى الذهب، من خلال شخصية “خواكين” حبيب بطلة الرواية الذي تركها ورحل إلى كاليفورنيا بعد أصابَته ــ هو الآخر ــ “حُمَّى الذَّهب”، فقررت هي الهرب واللحاق به، متخفية في ثياب فتىً تشيلي. ثم تنتهي أحداث الرواية بفشل بطلتها في اللحاق بحبها الضائع، ونجاحها في الحصول على كنز أثمن، هو الحرية ..!
“حُمَّى الذَّهَب” حلَّت أيضاً على هذا السودان ـ قبل سنوات – في ثوبٍ قشيب ومريبٍ وعصيب، ربما لذلك سيطرت هذه الخاطرة ـ أعلاه ـ على ذهني يوم أمس، عندما شاركت بعض الزملاء حضور المنبر الصحفي الذي أقامته “طيبة برس”، والذي شهد حواراً عاصفاً وزاخراً بين بعض قادة الصحافة والإعلام وأصحاب مبادرة الفاخر لتطوير صادر الذهب وتوظيف عائده ..!
ولأن اللغط الإعلامي حول هذا الأمر كان كثيفاً ومحتشداً بتناقض الأجابات حول بعض الأسئلة، دعني ألخِّص لك ما خرجتُ به من معلومات موثقة في شأن المختلف حوله، قبل أن أدلي برأيي. لا علاقة مهنية أو قانونية بين “شركة الفاخر للأعمال المتقدمة” ـ صاحبة المبادرة التي بدأت نشاطها التعاقدي في مجال الذهب منذ العام 2017م ـ و”شركة الفاخر العالمية” التي اشتهرت بإنتاج “المُعَسِّل”، والتي لم تدخل مضمار الذهب حديثاً في عهد وزير المالية الحالي، لشبهة علاقة، كما راج في بعض الأوساط والوسائط ..!
لم يتم توقيع عقد احتكار مع وزارة المالية، بل الاتفاق على آلية شراء وتصدير الذهب بغرض تثبيت وتخفيض سعر العملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني، والاستفادة من مبيعات صادر الذهب في استيراد السلع الاستراتيجية التي تحتاجها البلاد. وبناء على تلك الآلية – التي تتضمن تذليل بعض العقبات البيروقراطية والجمركية – فقد تم شراء شحنتين من القمح والجازولين، وقامت الحكومة بسداد مستحقات الشركة في إحداها، وتبقت مستحقات الصفقة الأخرى. وهكذا تمت الاستفادة من بعض عوائد الصادر في حل حلقة من سلسلة معضلات عجز الميزانية ..!
وفي اعتقادي كان يمكن لوزارة المالية أن تبادر بالشفافية حول بعض المعلومات فتوفر على نفسها وعلى المواطن ـ المُشفِق على مآلات ثورته الممهورة بالدماء ـ معظم اللغط والجدل الذي ثار حول هذا العقد. ثم أن هذا الحل – على نجاحه المؤقت في تذليل بعض العقبات ـ يبقى استخداماً عشوائياً لمطفأةٍ محدودة السعة في إخماد حرائق ميزانية متواترة الأزمات، متلاحقة “الكفوات”. بينما يبقى الحل الأشمل والأبقى والأنجع – إنشاء بورصة للذهب في السودان – عصيَّاً ونائياً عن خطط الحكومة، على الرغم من كونه ممكناً وإن أقعدته أعظم المصاعب ..!
الثورة في معناها ومبناها هي عملية إحلال وإبدال سياسي واقتصادي واجتماعي، وهي ثمرة جهود إنسانية حثيثة لإزالة حال واجتناب مآل. ثم أن محاولات إصلاح الراهن السياسي والاقتصادي – في هذا السودان – قديمة متجددة، فلماذا تخفق دوماً؟!. لأن إرادة التغيير – أياً كان شعارها ـ شرطها القدرة على التشخيص بالمراجعة النقدية، والقدرة على الحلول الآنية للأخطاء المؤسسية أولاً ..!
فالرهان هنا، بتوقيت هذه الثورة – “بعد خسارة بعض المبادئ على يد حملتها ودعاتها” – يجب أن يكون على آليات نفض العدة القديمة، وطرائق إصلاح المنهج، وسُبُل تقويم المفاهيم، عوضاً عن إهدار المزيد من “كرامة” الوطن في انتظار “كرامات” الحلفاء والأصدقاء والشركاء .. فهل ـ يا ترى ـ من مُذَّكِر ..؟
منى أبوزيد