ميراث لا ينقطع..!

“في حياة كل إنسان لحظة، لا تعود الحياة بعدها كما كانت قبلها” .. د. أحمد خالد توفيق ..!

للدكتور “أحمد خالد توفيق” – رحمه الله – مقال بديع يتناول بالسرد والتعليق حكايةً إنسانيةً ثرَّة لكاتب أمريكي. كان في الجزء الأول منها طفلاً مفعولاً لأجله، وكان في الجزء الثاني منها فاعلاً أصيلاً. أي أنني أحدثك هنا عن موضوع هو حكاية ذلك الكاتب الأمريكي، وعن روعة تقديم الموضوع  في مقال د.”أحمد خالد”، أو “العَرَّاب”، كما يحلو لجلينا – الذي نشأ فكرياُ وترعرع ثقافياً على مؤلفاته – أن يطلق عليه ..!

تقول الحكاية – باختصار – إن كاتب الحكاية كان صبياً في السابعة من عمره عندما هام حباً بمحل لبيع الحلوى كان يملكه المستر “جونز”، دون أن يقوى على الشراء، لأنه كان طفلاً فقيراً لا يملك ثمن قطعة حلوى. إلى أن جاء يوم تمكن فيه من ادخار ما يكفي، فاقتحم المحل وأخذ يشير بحبور نحو قطع الحلوى ويختار منها ما يشاء، حتى ملأ منها علبة كبيرة وكيس عملاق. وعندما حانت لحظة الحساب حشر المؤلف الصغير يده في جيبه وأخرج منها قبضةً من حجار “البِلِّي” الملونة التي يلعب بها الأطفال، ثم وضعها بحذر في يد الرجل العجوز، وهو يقول في براءة “هل تكفي هذه” ..؟!

لا يذكر المؤلف التعبير الذي ارتسم على وجه المستر “جونز” بالتحديد، لكنه يذكر صوته الهامس وهو يقول “نعم تكفي وتزيد، ولك نقود باقية”، قبل أن يدس بعض قطع العملة في يده. وهكذا حمل الصغير كنزه الثمين وغادر المحل ..!

غادرت أسرة الصبي إلى “نيويورك” وصار هو شاباً وتزوج من فتاة أحلامه التي كانت تشاركه الشغف بأسماك الزينة. ثم قام الزوجان بافتتاح محل لبيع تلك الأسماك، بعد شراء مجموعة غالية الثمن. وفي أحد الأيام رأى صاحب الحكاية صبياً في الخامسة، وطفلة في الثامنة، يقفان أمام واجهة المحل، ويرمقان أحواض أسماكه في انبهار ..!

ثم تقدمت الطفلة وخاطبت صاحب المحل قائلةً “أخي الصغير معجب بهذه الأسماك، لذا أريد أن أختار له بعضاً منها”. هنا شعر صاحب المحل أن شيئاً مألوفاً في هذا المشهد قد مر به من قبل. اختارت الطفلة مجموعةً باهظة الثمن من أسماك الزينة، ثم حشرت يديها في جيبها وأخرجت قبضتين مليئتين بحلوى النعناع، وبعثرتها على المنضدة أمامه وهي تسأله في براءة “هل يكفي هذا” ..؟!

سرت الرجفة في أوصال صاحب المحل، وهو يتذكر موقفاً مشابهاً، منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، عندما كان صبياً، وكيف وقف أمام صاحب محل الحلوى، وهو يقايض قطع الحلوى باهظة الثمن بحبات من “البلِّي”. تذكر صاحب المحل ثقل الميراث الذي تركه له المستر “جونز”، فخاطب الطفلة قائلاً بصوتٍ هامس “نعم، تكفي وتزيد، ولك نقود باقية”. وعندما حاولت زوجته أن تعترض على إهدار كل هذا المال، رجاها أن تصمت وهو يخاطبها قائلاً “هنالك دين كان يثقل كاهلي منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، وقد سدَّدتُه الآن”. انتهت الحكاية ..!

وهنا يقول “العَرَّاب”: “الآن فَكِّر في هذه الحكاية جيداً. سوف تكتشف أن نسيجك الأخلاقي يتكون من عشرات بل مئات المواقف التي اجتزتها مع والديك أو معلميك، وأن هذه المواقف قد تركت لك في كل مرة ديناً يجب أن تفي به، لكننا كثيراً ما ننسى هذا الدين. لا تحسب الأمر سهلاً. عندما بكيتُ أمام والدي لأنني لا أستطيع أن أذكر شيئاً من المنهج ليلة الامتحان، وضع يده على كتفي، وظل يراجع لي المنهج حتى منتصف الليل. وعندما تكرر ذات الموقف مع ولدي اعتبرته مستهتراً. ثم أن الأستاذ الذي أشرف على رسالتي العلمية الأولى صادف الكثير من الأخطاء فأصلحها ولم يعلِّق، بينما انفجرتُ أنا غيظاً عندما رأيتُ أخطاء المَراجع في أول رسالة أشرف عليها في حياتي. لكنني أحاول أن أتصَرَّف مثل ذلك الأستاذ، أحاول” ..!

“إنه ميراث لا ينقطع، وما ستفعله مع من هم أصغر منك سوف يكررونه مع من هم أصغر منهم عندما يكبرون، بل ربما يكررونه معك أنت” ..!

والآن ماذا؟!. هل تعتقد بأنني قد أوفيت لك بوعدي، عندما قلت لك بأنَّني سوف أُحدِّثُك عن الموضوع، وعن رَوعة تَقديم الموضوع ..؟!

منى أبوزيد

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى