بالتوفيق (ساتي) و(الصيحة)
سنوات طويلة ورِفقة في دروب المهنة، جمعتنا بالأخ الطاهر ساتي الذي سيخلفني في موقع رئيس التحرير في هذه الصحيفة، ولأني أعرفه وخبرته، فهو جدير بأن يتولّى هذه المهمة الصعبة في قيادة صحيفة شغلت الناس بخطّها وسياساتها التحريرية ومواقفها منذ عهد مؤسّسها الأول المهندس الطيب مصطفى، وعندما اشتريناها منه لم تتغيّر كثيراً، وسارت على نهجٍ تحريريٍّ واضح المَعالِم والمَلامِح، ومن نفس المدرسة الصحفية التي خرجنا منها، نهل الطاهر وأرتوى مشاش قلمه وإبداعه الصحفي منها، أياً كان رئيس تحرير، وسيكون عليه وإن تفاوتت المقادير أن يلتزم الخط الوطني وما يجمع الأمة على هُدى ويوحدها على هدف بلا ضَرر ولا ضِرار ..
في أزمنة مُلبَّدة بالدخان، أن تعيش لتكتُب وتحكي كما قال جبرائيل غارسيا ماركيز، لهِي مهمة صعبة يختلِط فيها السياسي بكل شيء، لا موقِف إلا ما يُمليه الضمير المِهَني أولاً، ثم ما تراه صائباً لمصلحة وطن، ومن أجل مجتمع يكابد ليحيا ويُجالِد ليتحدّث ويُعبّر عن رأي ويجهر بما يُؤمِن، تُصبِح الكلمات دوماً هي هاتيك الكلمات، تنبُع من مِحبَرة الصدق، وتنام ملء شواردِها غير عابِئة بما يسهر الناس جرّاها ويختصموا، فالكلمة هي الكلمة، زاهية في رداء الحقيقة، وعندما تكون موقفاً لا يتلّون أو يتبدَّل ..
هكذا كانت مسيرة هذه الصحيفة، صادِعة بالحق وصادِحة وصادِقة بالحقيقة، وهي تنتقل في معياريتها التحريرية للأخ العزيز الطاهر ساتي، مع مظنة عند كثير من الناس أنها ستتبدّل وتخلع غُلالتها الزّاهية أو تتقاصر قامتها دون ما كانت به وله، ومسيرات الصحف هكذا يتغيّر من يمسكون خطامها لكنها تبقى على عهدها ووعدِها تضطلع بدورِها ووظيفتِها الاجتماعية والتنويرية كأداة من أدوات المجتمع للمعرفة وتداوُل المعلومات والاطلاع على الحقيقة غير منقوصة ..
عام مضى مذ بدأنا (الصيحة) عقب شرائها من الطيب مصطفى، وقد رسخت تجربتها بفضل طاقَم تحريري كفء وصحفيين مهنيين، مخلصين لواجباتهم منكبين على مِهنتهم بمثابرة نادرة ووعي خلّاق فهم صناعها الحقيقيون، أينما يممَّتَ تجدهم نجوماً في سماء هذه المهنة الشاقة العسيرة، يُقدّمون خدمة صحفية في ظروف مُلتبِسة وواقِعٍ سياسي غامِض الغد، لكنهم لا يساومون ولا يعرفون غير القَلمَ والمِدادِ والقرطاسِ ينتمُون لوطنهم ويتبتَّلون في مِحرابه …
والطاهر ساتي حداء العيس الصحفي في صحراء تيه مُترامية الأطراف، سيقود هذه الصحيفة وهو صاحب قلقٍ مُفرط وحساسية بالغة من كل الذي حوله، لكن سيجد نفسه أمام تحدٍّ يستطيع بسهولة السير فوق أشواكه وتجاوُزه، إذ تواجِه الصحافةُ اليوم صعابها وستختار خياراتها القاسية، وتتخطّى كل ذلك إلى الطرف الآخر بعيداً عن مَفاوِز الجمر وهي قوية صلدة، عصيّة على الافتراس، تصمد في وجهِ عاصفة الزمن الأغبر، الذي وُوجِهَت فيه بالعسف والقهر والتهديد.. الصحافة هي الصحافة هواء الديمقراطية وإكسير الحُرية وروح السلام..
أتمنّى التوفيق للأخ الطاهر، ولكلِّ أسرة (الصيحة) وهم ينتقلون كل يوم إلى نجاح جديد، وأفقٍ واسعٍ من التجربة والاجتهاد، سنكون عوناً لهم حتى يعبروا هذه المرحلة بِهمّة عالية وتفوُّق كبير..