اليوم أضع القلم هنا في “الصيحة” بعد شهور عامرة بالعطاء في بلاط صاحبة الجلالة التي تقذفنا من بيد إلى بيد، واقدار هذه المهنة النبيلة أنها ضحية للتقلبات السياسية من عهد إلى عهد.
نضع القلم هنا لنستريح من رهق الكتابة ومتابعة عواصف الساحة السياسية وتغيراتها بعد أن انتهت علاقتي بشركة الوديان التي تحملت مع الصديق الأستاذ الصادق الرزيقي عناء البناء والتشييد والنهوض بصحيفة “الصيحة” وهي تنتقل من مالكها ومؤسسها الطيب مصطفى إلى شركة الوديان، وكان انتقالاً لذات الفكرة والمضمون والأهداف، ولم نشعر ساعة بأن “الصيحة” دار غير دارنا، وأرضاً غير أرضنا، وفكرة أخرى
وقفت الصيحة منذ صدورها منافحة عن السودان كبلد والإسلام كدين والتيار الوطني العريض كتوجه سياسي لم تخن الجيش أو تشكك يوماً في قوميته، ولم تطعن الشرطة في كبدها، ولا الأمن في جنباته، وقفت مع التغيير الذي حدث في الحادي عشر من أبريل الماضي، ولكنها وقفت مع قومية الحكم ومشاركة جميع السودانيين بلا عزل أو إقصاء، ناهضت الفساد وكشفت خباياه وأسرار صندوقه الأسود، دعت للسلام والديمقراطية ولكنها رفضت التوجهات العلمانية لحكومة حمدوك، ورفضت ركوعها وسجودها للغرب توسلاً لرفع العقوبات .
نافحت بصدق وقناعة عن إخوة أعزاء في قوات الدعم السريع يتعرضون لاستهداف ممنهج من قبل بعض القوى السياسية، ويسعون حتى اليوم وغداً لاقتياد المكون العسكري إلى ساحة القضاء ونزع الحصانات عنهم وتقديمهم كبش فداء بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في أحداث القيادة العامة .
قناعة منا أن استهداف المكون العسكري من شأنه إعادة إنتاج حكومة عسكرية جديدة مدعومة خليجياً وغربياً، ولكنها حكومة غير ديمقراطية وغير وطنية.
كتابنا مفتوح للتاريخ ولمن ألقى السمع وتدبر وتأمل، ومن أبغض أنواع الكتابة أن يجعل الكاتب من نفسه موضوعاً يومياً بدلاً من القضايا العامة .
نذهب عن ساحة الصحافة اليوم إلى فضاء آخر وما ضاقت أبواب الرزق يوماً في وجه من يؤمن بالأقدار والمصائر التي بيد الواحد الرزاق.
نستريح ومع الاستراحة نعتذر لكل من انتاشته سهام قلمي بشخصه ومؤسسته، وما قصد المرء إلا الإصلاح، وفي سبيل ذلك يخطئ ويصيب .
ومع كلمة الوداع نردد مع الشريف زين العابدين الهندي لوطنه السودان حينما شعر بأن السودان ما عاد السودان الذي يحلم به فقال :
يا المعزوزة بي دمنا وعضام أبوانتا
عارفنك مقريفه لي شراب قهواتنا
زغرتي يا أم شيوم خلي الندق نحاساتنا
ونحاسب عقب الجاتنا والما جاتنا
تتغير الأنظمة وتتبدل الحكومات وتبقى القناعات راسخة والأفكار ثابتة ومقتضيات السياسة تجعل ملاك الصحف يبدلون موافقهم وتحالفاتهم تبعاً لمصالحهم بالبيع والشراء، ولكن أقلامنا غير قابلة للسكوت في الأزمنة الغبراء، وشعبنا يقف في الطرقات مذهولًا من الذي يجري، وكيف تبدد حلمه إلى سراب.
نضع القلم ونعود لغنيمات ونعاج وأبل والفضة أم زور، ومع السلامة أخي القارئ سنلتقي إن كان في العمر بقية.