خربشات الجمعة
(1)
* نسمات الصباح الباردة والسحب تغطي سماء المدينه الساحرة يطلقون عليها نصف لندن وأحياناً جوهرة أفريقيا مدينة الرعب والخوف والسهر والموسيقى والتجارة والمخابرات والاغتيالات والسياحة، أشياء متناقضة تجتمع عند العاصمة الكينية نيروبي، اخترنا وأستاذي كمال حامد الإقامة في فندق “ترمنال هوتيل” بالقرب من وسط المدينة الصاخبة، بينما الوفد الحكومي يقيم في فندق “الشيراتون” بأنواره المبهرة وحدائقه الرائعة وحسانه الغيد وأغلبهن من تنزانيا وأثيوبيا وزنزبار، والمفاوضات بين حكومة السودان ومتمردي الجيش الشعبي لتحرير السودان قد اتفق على استئنافها بعد تعثر وملاواة. كان الأستاذ كمال حامد يمثل هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، ويمثل في ذات الوقت صحيفة “الحياة” اللندنية، وكنت حينها صحافياً متعاوناً مع صحيفة “الحياة” اللندنية من مكتبها بالخرطوم، نعمل بأجر حسب الإنتاج الشهري، ومعي الراحل عمر محمد الحسن الشهير بعمر كاهن، وفيصل خالد رد الله غربته، لكن السفر إلى نيروبي كان تمثيلاً لصحيفة “ألوان” الخير والحق والجمال بعد عودتها لتنقش على الورق سطورًا أنيقة، ويوم عودة “ألوان” للصدور بعد الغياب القسري بسبب انقلاب ٣٠ يونيو اختار حسين خوجلي مسداراً لها
قال فيه
بعد ختينا حيشان الصحف في ضهرنا
ويا التحرير عقب جاتنا الصقور متقرنه
وينك دا منو الفي الغربة ما ودرنا
قول للذين عقب عادت ليالي سهرنا
ونيروبي مدينة ساهرت وساحرة ومنذ الصباح كان مقرراً لقاء الوفد الحكومي بالرئيس الكيني دانيال أروب موي الذي صافح كل أعضاء الوفد بما في ذلك الوفد الصحافي الذي يتكون من شخصين فقط ويقف دانيال أروب موي بقامته الفارعة في عتبة أعلى من الجميع بحيث تبدو أمامه قزماً، وتلك من سمات الحكام الطغاة الذين يستهويهم التقليل من شآن الآخر.
بعد لقاء الوفد الحكومي الذي كان يضم بعض المتمردين السابقين وتلك من محاولات الحكومة (تمغيص) الحركة الشعبية وإثارتها جاء ضمن الوفد الحكومي رياك مشار وتعبان دينق والدكتور السفير شارلس ميانق والدكتور رياك قاي والي جونقلي ومن قادة التيار الإسلامي موسي المك كور والراحل الشهيد أحمد الرضي جابر، وبعد لقاء الوفد الحكومي بدانيال أروب موي جاء وفد الحركة الشعبية للقاء موي قبل بدء التفاوض الرسمي وطلب مني الأخ الصديق سيف الإسلام عمر الإمام الانتظار بالقصر للقاء وفد الحركة وقال عبارة (أقعد شمشم الأخبار) طبعاً الصحافة هي شمشمة الأخبار والتقاط الأحاديث العابرة وإحالتها إلى الفحص والتدقيق وصولاً للخبر الأكيد رغم أن مثل هذه اللقاءات أقرب للبرتكوليات.
(٢)
انتقلت المفاوضات بعد اليوم الأول الذي كان عبارة عن لقاءات بنيروبي الى ضاحية ناكوري التي تبعد نحو ٢٠ كيلو متراً من قلب العاصمة وهي عبارة عن مركز تدريب مصرفي أنشئ بمعونة من البنك الدولي لمساعدة دول شرق ووسط أفريقيا، وفي اليوم الأول للمفاوضات وأثناء اللقاءات الثنائية تفاجأت بشخص يمسك بأذني اليسرى ويضغط عليها بشدة، وعندما التفت إليه وجدته العم يوسف كوه مكي، فقال لي يا ولد (انت لسه مباري الجلابه ديل) ضحك وسلم عليّ بحرارة، وسألني عن جدي الراحل البشرى سومي أحد قادة حزب الأمة وزعيم الرواوقة دار جامع، وسألني عن الأمير عثمان بلال، أحد أبرز قادة الحوازمة الرواوقة، وسألني عن حازم يعقوب رحال، وعن العم الراحل عبد الرحمن أبو البشر، وحاولت أن أنتزع منه تصريحاً عن مفاوضات السلام والسقف المطلبي للحركة الشعبية التي طرحت حينذاك الكنفدرالية كحل وسط بين وحدة بشريعتها وانفصال للجنوب، وقال الراحل يوسف كوه اذهب لدينق ألور هو المتحدث باسم الوفد، أما عن جبال النوبة فلدينا متحدث إنه دانيال كودي انجلو.
وهنا تدخل العميد الراحل حمد عبد الكريم السيد وكان رجلاً قلبه يفيض حباً لجبال النوبة، وطلب أن يلتقي أبناء جبال النوبة لوحدهم للحديث عن قضيتهم.
ضحك يوسف كوه مكي عليه الرحمة حتي بانت أسنانه البيضاء، وقال لحمد عبد الكريم القضية لا تحتاج التجزئة التي يمارسها جلابة الخرطوم وهؤلاء الناس ويقصد وفد الحكومة بطبيعتهم تجار قطاعي، لذلك يريدون تمييع القضية بتقسيم المهمشين إلى نوبة وانقسنا ونوير وشلك، وجعفر نميري هو علمهم البيع بالقطاعي بدلاً عن تجارة الجملة.
فشلنا في إقناع يوسف كوه مكي بفكرة لقاء أبناء جبال النوبة لوحدهم، ولكنه في نهاية الجلسة وكان اليوم خميس وغداً الجمعة طلب أن نتغدى معه ببيته في نيروبي، وكنا أربعة فقط حمد عبد الكريم السيد ومكي علي بلايل والأب يونثان حماد، وكاتب هذه السطور، لكنه طلب من يونثان أن يذهب وينال الإذن من الجلابة على حد تعبيره بشرط إذا وافقوا على الغداء غداً أن لا يكون من بيننا أحد الجلابة لأنهم سيبعثون ضابط مخابرات للتجسس ونقل ما يدور في جلسة الغداء وتحريف الكلام، وذلك لخدمة قضيتهم ـ على حد قوله.
وافق الأب يونثان حماد على شروط يوسف كوه وأبلغ رئيس الوفد مولانا أحمد إبراهيم الطاهر ومسؤول التفاوض عن قطاع جبال النوبة الدكتور مطرف صديق النميري.
( ٣)
* في منزله الواقع غرب الملعب الرياضي الشهير باستاد جيمو كيناتا قدنا الأخ عمر قنديل وهو شاب من أبناء مدينة الدلنج كان يقف ما بين الحكومة والحركة الشعبية يتجول بحرية بين نيروبي والقاهرة وكمبالا والخرطوم علاقاته الراسية تمتد بين الرموز السياسية تجده في مكتب علي الحاج ومع مطرف صديق النميري وعلى علاقة بقادة التمرد، المنزل المتواضع داخل البيوت المحمية، وهي بيوت تتم حراستها وإغلاق البوابة الرئيسة ليلاً وتراقبها عيون الأمن كل عشرة بيوت محاطة بسلك شائك يصعب عبوره في المنزل.
استقبلتنا السيدة فاطمة زوجة الراحل يوسف كوه بالدموع والأحضان والشوق واللهفة، وهي امراة فاضلة، أعدت وجبة غداء أعادتنا إلى جبالنا ورمالنا في المدينة الباردة جداً والممطرة لتسعة أشهر، بعد أداء صلاة ظهر الجمعة، قادنا يوسف كوه مكي إلى صالون متوسط وجلس بجلبابه الأبيض وفي يده مسبحة صغيرة، وقبل الحديث السياسي سأل العميد حمد عبد الكريم السيد عن شخص بشرته بيضاء أقرب لما يسميه السودانيون بالحلب فقال يوسف كوه هذا مدير مكتبي اسمه وليد حامد، سأل العميد حمد سؤالاً قصد به استفزاز يوسف وليد من هيبان ولا من الدلنج؟؟
يوسف كوه..لا هو من مدينة عطبرة.
فقال العميد حمد استجبنا لطلبك بأن لا يحضر اللقاء أي من أعضاء الوفد من غير أبناء جبال النوبة ولكن تفاجئنا بواحد من جلابة الحركة الشعبية أرجوك يا شاب دعنا لوحدنا .
تلجلج الشاب وليد حامد الذي كان بمثابة عين لجون قرنق لمراقبة حتى يوسف كوه واضطرب الشاب وليد ولكن يوسف كوه طلب منه مغادرة الغرفة وانتظارنا بالخارج وتحدث مكي علي بلايل عن الآثار السالبة للحرب على إنسان جبال النوبة والتشرد والضياع وتدهور التعليم والتفسخ الأخلاقي وقد أدت الحرب لنتائج كارثية في السودان مما يتطلب التفاهم حول كيف يتحقق السلام، وتحدث حمد عبد الكريم السيد عن قضية جبال النوبة ومساعي حلها وفشل الحكومات المتعاقبة في مخاطبة جذور القضايا التي جعلت الشباب يحملون السلاح.
(4)
*وضع يوسف كوه كوب الشاي وبدأ يتحدث بالمختصر المفيد فقال: كل ما ذكر صحيح، وهناك معاناة والحرب كارثية على المنطقة، لكن أنتم تريدون حواراً بيني وبينكم وأنا وأنتم متفقون علي التهميش والظلم والتحيزات وهضم الحقوق ومركزة السلطة في السودان النيلي فقط، وأنا معكم قضية جبال النوبة تختلف عن قضية الجنوب، ولكن يا جماعة الحوار دائماً بين المتناقضات لا بين المتشابهات، أنا أحاور المختلف معه سياسياً، ولكن أنا لا خلاف لي معكم أنتم إخواني، ولكن لا تملكون من السلطة شيئاً.
الآن أنا يوسف كوه عاوز أصبح وزير داخلية أو رئيس مجلس الوزراء أو وزير مالية وعاوز قرار الآن باستيعاب عشرة آلاف من أبناء جبال النوبة في الجيش والأمن والشرطة، وعاوز قرار بتشييد الطريق الدائري من الدلنج حتى كادقلي، البرام، تلودي، أبوجبيهة، رشاد، أم روابة، من منكم أنتم الذين تدعون تمثيل المنطقة يستطيع اتخاذ مثل هذا القرار؟
وإذا كان بيدكم أنتم هذا القرار لماذا أحمل السلاح في وجهكم .
يا إخواني إما أن تقفوا معي لأرد حقوق المنطقة وإما الجلوس بعيداً وتتركوني أحاول أن أفعل شيئاً.
انفضت الجلسة وعدنا لمقر التفاوض في اليوم الثاني ونحن أكثر قناعة بأن التفاوض العبثي الذي تطاول لن يحقق السلام، وأن قضية جبال النوبة قد أصبحت بعيدة جداً من التسوية، إلا إذا تحقق السلام في جنوب السودان .
( 5)
*يمر طيف الذكريات وأيام التفاوض في أديس أبابا ونيروبي وأبوجا وبلادنا لا تزال تبحث عن سبيل لتخرج من غياهب الجهل بطبيعة المظالم التي جعلت بعض أبنائها يحملون السلاح في وجه بعضهم.
تتغير الأنظمة وتتبدل الوجوه المفاوضة، ولكن تبقى الحقيقة لجبال النوبة قضية غير العلمانية وفصل الدين عن الدولة.