تقرير: عبد الله عبد الرحيم
أعَادت الأحداث التي تعرّضت لها العاصمة (الخرطوم) أمس الأول إثر تمرُّد وحدات من هيئة العمليات بجهاز المخابرات والأمن إلى الأذهان، تاريخاً أسود لأحداث شبيهة تعرّضت لها الخرطوم في أوقات سابقة أدخلت الرعب والخوف في مُواطني المناطق الثلاث أم درمان – الخرطوم وبحري، بعد أن غاب السمع بأجوائهن، نتاج أزيز وأصوات الذخيرة الماطرة وأحداث عنف خلّفت وراءه حالة من الرُّعب والخوف!!
ولم تكن حادثة الثلاثاء الأخيرة هي التجربة الأولى التي تعيشها الخرطوم, فقد شهدت حالات مُماثلة،، وُصف بعضها بالتمرُّد, وآخر بالاختراق وبعضها بالفتنة، خلقت جميعها مناعة طبيعية لمواطني العاصمة الذين باتوا غير مذعورين مما يجري وكاد أن يكون بالشيء الطبيعي لهم, بيد أنّ هذه الأحداث التي تواترت على عاصمة البلاد وجدت تعاملاً مُماثلاً، إذ تدخلت بالقوة الأجهزة والسلطات العسكرية والأمنية جميعها، وقامت بحسم تلك الظواهر والأحداث في أوقات قصيرة، بينما لا زالت تداعيات بعضها يجري حتى يومنا هذا.
مجزرة المرتزقة:
في فجر يوم 2/7/1976م، قامت عناصر من المُسلحين بمُحاولة انقلاب عند عودة الرئيس الراحل جعفر نميري من باريس، بعد أن اختتم رحلة عمل للولايات المتحدة وفرنسا، وقد شمل هجوم هذه العناصر (مطار الخرطوم وبعض المعسكرات منها معسكر الشجرة ودار الإذاعة)، مما أدى إلى قطع البث الإذاعي، كما أُغلقت الكباري والمداخل بين المُدن الثلاث وقُطعت الاتّصالات الهاتفية، وقد تَصَدّت قوات الشعب المسلحة لهم، مما يدل على أنّ جهات أجنبية قد قامت بتدريبهم وتسليحهم ودفعهم لهذه العملية البشعة والتي أودت بأرواحٍ بريئة، وقد استمرت المعركة في الخرطوم لعدة ساعات، أحكمت فيها قوات الشعب المُسلّحة سيطرتها العاجلة على مطار الخرطوم الدولي والطرق المؤدية إليه، وعلى جميع المناطق التي تسلّلوا إليها، ونظفت جيوبهم فيها، وطاردت فُلُول المهاجمين في الشوارع، واعتقلت عدداً كبيراً منهم، واستمرت عمليات التنظيف في شوارع الخرطوم حتى مساء اليوم الثاني، وتمت السيطرة التامّة على الموقف، وقد بدأت الإذاعة في بث برامجها قبل ظهر الثالث من يوليو، إلا أنّ الاتصال الهاتفي قد ظل مقطوعاً طوال اليوم.. وقد أصدر السيد وزير الداخلية، بياناً أذاع فيه قرار فرض حظر التجوال في العاصمة المثلثة ابتداءً من السادسة والنصف مساءً حتى الرابعة صباحاً، وكان السيد (بونا ملوال) وزير الثقافة والإعلام الناطق، الرسمي باسم الحكومة قد أصدر بياناً في نفس اليوم جاء فيه: (إن فلولاً من المسلحين حاولت القيام بانقلاب فجر أمس الثاني من يوليو عند عودة السيد الرئيس القائد من رحلة عمل مُوفّقة للولايات المتحدة وفرنسا استغرقت ثلاثة أسابيع، وبعد معركة في الشوارع استمرت لعدة ساعات، استطاعت قوات الشعب المسلحة القضاء على المحاولة الآثمة ومازالت تجري عمليات تنظيف للجيوب في شوارع العاصمة وقد صار الموقف تحت السيطرة التامة لقوات الأمن).
وقالت صحيفة (الأيام)، إنّ عدد الذين استشهدوا في أحداث اليومين قد بلغ بمستشفى الخرطوم وحدها 80 شهيداً، بينهم مُواطنون وجنود وضباط من القوات المسلحة وبعض القتلى من المُرتزقة، كما بلغ عدد الجرحى 175 جريحاً، كما استشهد في الأحداث حوالي أحد عشر ضباطاً، هذا بالإضافة إلى عدد آخر من الشهداء من المُواطنين والضباط والجنود لم يحص عددهم وقتها.
وقال قائد مُحالة الانقلابية (محمد نور سعد)، إنّ ليبيا هي التي قامت بتمويل تسليح المحاولة الانقلابية الفاشلة وبالتدريب، وقال إنّه كان من المفروض أن تدخل قوات كبيرة أخرى خلال الليل بعد الهجوم الأول لتعزيز موقف المرتزقة، ولكن حدثت (لخبطة) – على حَدِّ تعبيره – مما قاد إلى فشل الهجوم، وقال إنّ التخطيط كان أن يتم الهجوم على القيادة العامة والمُدرّعات وسلاح الأسلحة وبقية المناطق الاستراتيجية لقلب نظام الحكم، واعترف محمد نور سعد بأنّ ما حدث في السودان فجر الجمعة الثاني من يوليو 1976 هو مجزرة، وأضاف بأنّ انحرافات دَخَلت على المُخَطّط مما أدّى إلى القتل والتقتيل بتلك الصورة.. وحول التخطيط قال إنّه تمّ وضعه برمته في ليبيا، وقال إنّ مدربين ليبيين ساهموا عملياً ونظرياً في تدريب الذين اشتركوا في مُحاولة الانقلاب، وأوضح أنّ الهدف من المُحاولة هو تصفية النظام في السودان وإحلال ما يُسمى (بالجبهة الوطنية) محله، وأكد أن الصادق المهدي هو رأس القيادة السياسية للجبهة الوطنية، وقد قامت القيادة العسكرية بإعدام كل من تم القبض عليهم ممن شاركوا في تلك المُحاولة الانقلابية على رأسهم القائد محمد نور سعد وآخرون.
اليرموك والشفاء
في أغسطس 1998، ضربت الولايات المتحدة مصنع الشفاء للأدوية بالخرطوم المملوك لرجل الأعمال السوداني صلاح إدريس بذريعة صلته بأنشطة إرهابية وإنتاجه مُركّبات تدخل في صناعة أسلحة كيماوية، ورغم أن تقارير أمريكية شبه رسمية أشارت إلى أن المصنع قُصف خطأً، وبناءً على معلومات استخبارية غير صحيحة مُستقاة من دوائر سودانية مُعارضة للنظام الإسلامي الحاكم في الخرطوم والمتّهم غربياً برعاية الإرهاب، وتحديداً ما ذكره السفير الأمريكي الأسبق بالخرطوم تيموثي كارني، ورجل الأعمال الأمريكي المسلم من أصل باكستاني منصور اعجاز، ضمن مقال لهما بصحيفة (الواشنطن بوست 3 يونيو 2002)، إلا أن السياسي المعارض، مبارك الفاضل المهدي كشف في سياق المناظرات لانتخابات العام 2010 الرئاسية التي ترشّح فيها وفي برنامج (مجهر سونا)، أن المعلومات التي استند عليها الأمريكيون في قصفهم للمصنع وفّرها مديره المنتمي لتوجه الإسلاميين الحاكم عقب صحوة ضمير انتابته من الاحتمالات السوداوية لاستخدام تلك الأسلحة في الحروب الأهلية السودانية، وما يُمكن أن تجره من كوارث ضد المدنيين من أبناء الهامش السوداني، وإن ذلك المدير طلب اللجوء السياسي إلى الولايات المتحدة. ولم تنف أيِّ جهة أو مسؤول حكومي معلومات مبارك المهدي تلك في حينها.
وفي يوم 23 أكتوبر 2012، أفاق النظام الحاكم والسودانيون مجدداً على غارة ليلاً من طائرات أجنبية قصفت مصنع اليرموك للتصنيع الحربي جنوب الخرطوم فدكّته دكاً.. وانجلى الموقف على حقيقة أن الطائرات المغيرة كانت إسرائيلية، والتي أكّدت أنها استهدفت مصنعاً للأسلحة الإيرانية في الخرطوم ينتج السلاح بمختلف أنواعه ويُهرّب عبر الحدود المصرية إلى المقاومة الإسلامية الفلسطينية وحزب الله جنوب لبنان.. كان إنذاراً قوياً للخرطوم لأنه كان أيضاً ضربة في العُمق وعلى بُعد كيلو مترات محدودة من مقرات الحكم وكان مؤداها الابتعاد عن التحالُف مع إيران آيات الله وإيقاف تهريب السلاح إلى الجماعات الإسلامية في فلسطين! ثم بدأت الإنذارات تغلظ تدريجياً.. غارة إسرائيلية أولى في يناير 2009 على قافلة للسيارات بولاية البحر الأحمر قرب الحدود مع مصر، ثم تلتها ثلاث أُخر جميعها بمنطقة البحر الأحمر خلال الأعوام المنصرمة حتى وقعت واقعة الخرطوم في هدأة الليل البهيم. وخلال كل هذه الغارات، تعاملت القوات المسلحة معها بنوعٍ من الاستعدادات العسكرية وإن لم يصل لدرجة استخدام السلاح، لأنّ العدو ليس على مرمى حجر كما كان يحدث في الحالات المُختلفة التي هَدّدَت الخرطوم، بيد أن القوات المسلحة والداخلية والأمن ظَلّت تُطمئن المُواطنين بأن الأوضاع ليست بالخطورة، وأن قواتها المسلحة ما زالت ساهرة لأجل حماية الوطن ومقدراته، رغم أن رد الفعل الدولي والإقليمي ومن الأشقاء كان خجولاً.
الاثنين الأسود
في يوم 1/8/2005م شَهِدَت شوارع العاصمة الخرطوم عقب الإعلان الرسمي عن مقتل النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئيس الحركة الشعبية جون قرنق في تَحطُّم مروحية أحداث عنف وقتل بوسط الخرطوم من قبل منسوبي الحركة الشعبية والقبائل الجنوبية، بعد أن نزل الآلاف منهم إلى شوارع العاصمة وضواحيها وأدى إلى سقوط العديد من الضحايا، بالإضافة لحوادث خطيرة، شهدتها الخرطوم عبر ارتفاع صوت الرشقات النارية من رشاشات كلاشنكوف وإحراق العديد من المحال التجارية واحتراق السيارات الخاصة والعامة في الشوارع”. واقيم العديد من الحواجز الأمنية في العديد من نقاط العاصمة، بينما قَطَعَ تماماً طريق المطار صباح الاثنين في ظل تزايُد أعمال العُنف. وتعهّدت الحركة الشعبية لتحرير السودان التي كان يتزعّمها جون قرنق في ذات اليوم “بتطبيق اتفاق السلام” المُوقّع في يناير مع الحكومة السودانية. وقال سلفا كير في مؤتمر صحفي صباح الاثنين في نيروبي، حيث مقر الحركة الشعبية لتحرير السودان إن “جنوب السودان وكل السودان فَقَدَ ابناً عزيزاً”، وأضاف “نود طمأنة الجميع بأن قيادة وكوادر الحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان سيبقون موحدين وسيسعون جاهدين لتطبيق اتفاق السلام بكل صدق”. وقال كير”اغتنم هذه الفرصة لطمأنة الجنوب السوداني بوجه خاص والشعب السوداني بوجه عام بأن قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان ستواصل أهداف الحركة التي وضعها الدكتور جون قرنق وترغب في تحقيقها”. وتابع “أدعو جميع أعضاء الحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي وكل الأمة السودانية إلى الهدوء والتيقظ”, مضيفاً أنه سيغادر على الفور نيروبي إلى نيوسايت القاعدة العسكرية للحركة الشعبية في جنوب السودان. وأضاف “طلبت من جميع الأعضاء السابقين في اللجنة القيادية للحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي للاجتماع في نيوسايت في إقليم كبويتا لعقد اجتماع أزمة”. الاجتماع الذي قاد قيادات الحركة إلى الالتزام بمُوجِّهات وثيقة السلام والاستمرار في عملية السلام وبناء الدولة المُشتركة إلى أن تم الانفصال الذاتي في العام 2010م. يُذكر بأنّ العديد من الضحايا سقطوا جراء الغُبن المَكتوم من عناصر الحركة الشعبية وقيادات الجنوب، ظناً منهم أن الشمال هو من قام بتصفية جون قرنق والذي سقط قتيلاً جراء تحطم مروحيته التي كان يستقلها من يوغندا راجعاً الى جوبا عقب اجتماع له مع الرئيس اليوغندي موسيفيني. ولا يزال عملية اغتيال جون قرنق سراً لم تكشفه الأيام رغم مرور خمسة عشر عاماً على رحيله.
الذراع الطويل
شنت حركة العدل والمساواة، إحدى الحركات المتمردة في دارفور، يوم 10 مايو 2008 حوالي ما بعد الظهيرة, شنت هجوماً خاطفاً على مدينة أم درمان (العاصمة التاريخية وإحدى مدن العاصمة السودانية المثلثة, الخرطوم, أم درمان, الخرطوم بحري)، في عملية سُميت بالذراع الطويل لإسقاط الحكم في الخرطوم، بعد أن تفاقمت الخلافات بين الحكومة والحركات المسلحة التي رأت ضرورة التغيير بهذه الصورة الانتحارية كما يراها البعض. وقد أوقعت عملية الذراع الطويل الكثير من الضحايا وسط صفوف العسكريين جرّاء تبادُل إطلاق النار بين مُكوِّنات العدل والمساواة والجهات الأمنية والعسكرية التي فشلت في صد الهجوم المُعلن على العاصمة من قِبل حركة العدل والمساواة. فيما امتعض الكثير من المتابعين تصريحات وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين وقتها من أنهم خططوا بتلك الخطوة إلى جر عناصر العدل والمساواة إلى وسط الخرطوم ليسهل عملية اصطيادهم وقتلهم. الشيء الذي أوقع العديد من الضحايا وسط المدنيين. وفَسّرَ المراقبون تصريحات وزير الدفاع بالعاجزة، لجهة أن القوات الأمنية هي التي أوكل إليها وقتها عملية الدفاع ومُحاصرة الحركة التي تَحَرّكَت من داخل الأراضي التشادية إلى أن بلغت الخرطوم، ما يُعد فشلاً ذريعاً لاستراتيجية وزير الدفاع التي تحجّج بها خلال المؤتمر الصحفي الذي انعقد عقب انجلاء الموقف وخروج بقية القوات المهاجمة من العدل والمساواة ورجوعها الى مقراتها في دارفور. وقد فقدت الحركة العديد من قياداتها بجانب معظم أفرادها، فيما وقع عدد كبير منهم في الأسر بين أيادي القوات المسلحة والأمن وقد تم إطلاق سراح معظمهم، فيما لا يزال البعض منهم حبيساً يقضي عقوبة السجن المُوقعة بحقهم. وقد واجهت القوات المسلحة بقوة الموقف ما أدّى إلى انجلاء الموقف ووضع حدٍّ لمُغامرة حركة العدل والمُساواة التي فَقَدَ الكثير من أركانها فيما بعد.
عملية الذراع الطويل كما سمّاها الراحل د. خليل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة تُعد إحدى مُتحوِّلات الساحة السياسية والعسكرية وظهور المُهدِّد، الحركات المسلحة للحكومة. عملية الذراع يقال إنّها عملية يقف خلفها حكومة الرئيس التشادي إدريس ديبي بعد أن تفاقمت حالة العداء بينه وبين حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير الذي ساعد المُعارضة التشادية للدخول الى القصر الرئاسي في إنجمينا في مُحاولة للإطاحة بالرئيس ديبي والذي وجد مُساندة كبيرة من حركة العدل والمساواة التي قامت برد العدوان وحماية قصر الرئيس ديبي وطرد فلول المعارضة التشادية لخاج العاصمة إنجمينا والمشاركة في القبض على معظمهم. وقال ديبي في تصريحات له عقب دخول جماعة خليل لأم درمان، إنّها رد الزيارة التي ساعدت الخرطوم فيها لبلوغ مرامي أطراف القصر بإنجمينا. وفيما بعد توصّلت الحكومتان لوثيقة صلح مُشترك لحماية حدودهما ووقف العدائيات بينهما وتكوين قُوّات مُشتركة للحيلولة دُون وقوع حركات مُشابهة. وقامت تشاد بعدها بطرد قوات العدل والمساواة بناءً على الاتفاق المُوقّع مع الحكومة السودانية، فَقَدَت على إثره أهم داعم لها وتفرّقت قواتها في الأرض بعد اغتيال قائدها خليل على أعتاب أراضي كردفان في مُحاولة للانسحاب شمالاً نحو الأراضي الليبية.