الخرطوم تحبس أنفاسها
عاشت الخرطوم أمس يوماً عصيباً لم تنقشع سحابة غيمته حتى كتابة هذه السطور في التاسعة من مساء أمس بسبب أحداث (تمرّد) أفراد من قوات هيئة العمليات السابقة بجهاز الأمن والمخابرات المحلولة بأمر الحكومة وصِفة تمرُّد أطلقتها الحكومة رسمياً على المحتجين بالذخيرة من خلال بيان الناطق الرسمي باسم الحكومة الوزير فيصل محمد صالح.
الأحداث بدأت احتجاجية وتضخّمت بعد بيان الحكومة وتصريحات الفريق محمد حمدان حميدتي نائب رئيس المجلس السيادي من جوبا باتهامه الصريح للفريق صلاح قوش المدير العام السابق لجهاز الأمن بوقوفه وراء الأحداث ومحاولة استثمارها لصالحه، وهو اتهام له ما بعده على صعيد العلاقة مع مصر التي تحتضن صلاح قوش وآخرين من قادة النظام السابق، وكشف حميدتي في حديثه بمدينة جوبا عن مُخطّط للمؤتمر الوطني المحلول لتفجير الأوضاع دون الخوض في تفاصيل أكثر، لكن الفريق حميدتي اتهم المدير العام الحالي لجهاز المخابرات بالتقصير وحمّله مسؤولية ما حدث بسبب ما سماه بتقاعسه في احتواء الأحداث والتلكؤ في صرف استحقاقات الجنود والضباط المُسرّحين رغم تسلّمه مبلغاً مالياً بلغ ثلاثة وعشرين مليون دولار أمريكي، وهو رقم فلكي بحساب الجنيه السوداني، فهل يعني حديث حميدتي نهاية تكليف الفريق أبو بكر دمبلاب في منصب المدير العام لجهاز المخابرات ؟؟ وهل بعد الذي حدث يستطيع دمبلاب البقاء في كرسيه أم يُغادره بالاستقالة قبل الإقالة؟
وهل إعفاء أو استقالة دمبلاب من شأنها حل المشكلة؟
على صعيد الأزمة التي أدخلت البلاد في نفق شديد الظلام، وأخّرت بصورة غير مباشرة رفع الولايات المتحدة الأمريكية اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب كما تشتهي حكومة حمدوك وهزت صورتها أمام العالم ومطار الخرطوم مغلق بسبب وقوع المدرج على مرمى النيران والجنود المُحتجّين يرشقون الفضاء بزخات الرصاص منذ منتصف النهار وحتى المساء.
لا حلّ إلا بالتفاوض السلمي وتدخّل الفريق البرهان لاحتواء غضب الجنود والضباط، لأن الحل العنيف أضرارة كبيرة على البلاد على المدى القريب والبعيد.
لا يُعرف تحديداً عدد القوات المُتحصّنة بمواقعها في مقرات جهاز الأمن السابق في كل من بحري والرياض والأبيض، ومهما قاومت هذه القوة فإن الغلَبة في نهاية المطاف للقوات المسلحة التي تتفوّق عليها عدة وعتاداً وكثرة وتجربة قتالية، وقد أغلقت القوات المسلحة الطرق المؤدية لمقرات الأمن وتمّت محاصرة القوة، ولابد لها أن تستسلم في الآخر، ولكن متى ذلك وعنصر الزمن يلعب دوراً ضاغطاً على الحكومة التي تعيش منذ نهار أمس عزلة أجواء غير مسبوقة، ولحقت بسمعة السودان أضرار بالغة.
هل ما حدث له أسباب سياسية؟ قد اتهمت قيادات قوى الحرية والتغيير من خلال قناة الجزيرة أمس النظام السابق بمحاولة الاستثمار في الحدث، ولكن تلك الاتهامات تقرأ في سياق الشعور بالإخفاق من قبل الحكومة التي سرّحت هؤلاء الجنود منذ يوليو الماضي، فلماذا لم تنزع سلاحهم؟ ولماذا لم تصرف استحقاقاتهم؟ وإذا كانت الاستحقاقات قد تم الوفاء بها لمدير جهاز الأمن ولم يتسلم المُسرّحون استحقاقاتهم فأين رقابة الحكومة على المال؟ وأين المتابعة، ولماذا لم يُحاسَب المدير العام على قصور الأداء؟
بطبيعة الحال في مثل هذه الظروف ينبغي التعقل والصبر وتجنب إراقة الدماء والحلول العسكرية العنيفة من شأنها تعقيد الأوضاع أكثر، فهلا تدخل العقلاء لاحتواء التمرد كما أسمته الحكومة التي تفاوض في جوبا مُتمرّدين تلطّخت أيديهم بدماء أهل السودان، ومتمردو الخرطوم كانوا يصدون عن الخرطوم متمردي الأطراف، وإذا كانت الحكومة حريصة على تجفيف الدم عليها تسفيه دعاوى البعض ممن يقولون لها اضربي بيد من حديد، والقوة والعنف لا تُنجب إلا عنفاً وقوة أخرى، ويظل الوطن هو الخاسر من مثل هذه التمرّدات.