علوُّ الهمَّة
* كالعادة نستظل كل جمعة تحت ظلالهم واليوم نجلس تحت شجرة حلمهم إنها دعوة لنستقي من ذاك المعين.
* يقول يزيد بن يحيى: مرَّ شريك القاضي بالمستنير بن عمرو النخعي، فجلس إليه فقال: يا أبا عبد الله، من أدَّبك؟ قال: أدَّبتني نفسي والله، ولدت ببخارى من أرض خراسان، فحملني ابن عمٍّ لنا حتى طرحني عند بني عم لي بنهر صرصر، فكنت أجلس إِلى معلم لهم تعلَّق بقلبي يعلِّم القرآن.
* فجئت إِلى شيخهم فقلت: يا عماه، الذي كنت تجري عليَّ ها هنا أجره علي بالكوفة أعرف بها السنة والجماعة وقومي، ففعل؛ قال: فكنت بالكوفة أضرب اللبن وأبيعه؛ فأشتري دفاتر وطروسًا، فأكتب فيها العلم والحديث…
* ثم طلب الفقه فقلت: ما نرى؟ فقال المستنير بن عمرو لولده: قد سمعتم قول ابن عمكم وقد أكثرت عليكم، فلا أراكم تفلحون فيه، فليؤدِّب كلُّ رجل نفسه، ثم من أحسن فلها، ومن أساء فعليها”.
* قال علي بن أبي طالب: سألت كثيرًا من كبراء فارس عن أحمد ملوكهم عندهم؟ قال: أزدشير فضل السبق، غير أن أحمدهم سيرة أنوشروان. قال: فأي أخلاقه كان أغلب عليه؟ قال: الحلم والأناة. فقال علي : هما توأمان أنتجتهما علوُّ الهمَّة.
* وقيل إن رجلاً من قوم سَلْم بن نوفل سيِّد بني كنانة، ضرب (سلم) بسيفه، فأُخِذَ، فأُتِي به إليه فقال له: ما الذي فعلت، أما خشيت انتقامي؟ قال: لا. قال: فَلِمَ؟ قال: ما سوَّدْنَاك إلاَّ أن تكظم الغيظ وتعفو عن الجاني، وتحلُم على الجاهل، وتحتمل المكروه في النفس والمال. فخلَّى سبيله. فقال قائلهم: تُسَوَّدُ أَقْوَامٌ وَلَيْسُوا بِسَادَةٍ.
* وقال الأحنف بن قيس: تعلَّمْتُ الحِلْمَ من قيس بن عاصم المنقري، إني لجالسٌ معه في فناء بيته وهو يحدِّثُنا إذ جاءت جماعة يحملون قتيلاً، ومعهم رجل مأسور، فقيل له: هذا ابنك قتله أخوك. فوالله ما قطع حديثه، ولا حلَّ حبوته حتى فرغ من منطقته.
* قيل أن رجلاً أسرع في شتم بعض الأدباء وهو ساكت، فحمى له بعض المارِّين في الطريق، وقال له: يرحمك الله ألا أنتصر لك؟ قال: لا. قال: ولِمَ؟ قال: لأني وجدتُ الحِلْمَ أَنْصَرَ لي من الرجال، وهل حاميت لي إلاَّ لحِلْمِي؟
*وقال عبد الله بن عمر: إن رجلاً ممن كان قبلكم استضاف قومًا فأضافوه، ولهم كلبة تنبح، فقالت: والله لا أنبح ضيف أهلي الليلة. فعوى جراؤها في بطنها، فبلغ ذلك نبيًّا لهم أو قَيْلاً من أَقْيَالهم، فقال: مَثَلُ هَذَا مَثَلِ أُمَّةٍ تكون بعدكم، تظهر سفهاؤها على حُلَمَائِها.
* قال معاوية بن أبي سفيان لواء قبيلة طي : يا معشر طيِّ مَنْ سيِّدكم؟ قالوا: خريم بن أوس: من احتمل شتمنا، وأعطى سائلنا، وحلم عن جاهلنا، واغتفر، فضلَّ ضربْنَا إيَّاه بعصِيِّنَا.
*قال عبد الله بن البوَّاب: كان المأمون يحلم حتى يغيظنا في بعض الأوقات، جلس يستاك على دجلة من وراء ستر، ونحن قيامٌ بين يديه، فمرَّ ملاَّحٌ وهو يقول: أتظنُّون أنَّ هذا المأمون ينبل في عيني وقد قَتَل أخاه. قال: فوالله ما زاد على أن تبسَّم، وقال لنا: ما الحيلة عندكم حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل.
* جاءت جاريةٌ لمنصور بن مِهْرَان بمَرَقَةٍ فهَرَاقَتْها عليه، فلمَّا أحسَّ بحَرِّها نظر إليها، فقالت: يا معلم الخير، اذكر قول الله. قال: وما هو؟ قالت: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ). قال: كظمتُ. قالت: واذكر (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ). قال: قد عفوتُ. قالت: واذكر (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال: اذهبي فأنت حُرَّة.