الجنينة.. مُحاولات اللحاق بكلاب الموت..!!
مَضت أيام على الأحداث المُؤسفة التي جرت بمعسكر (كرندق) بغرب دارفور، وراح ضحيتها عشرات القتلى والمُصابين من الأطراف المُتنازعة، وقد تحرّكت جهات كثيرة وقدمت مبادرات، لكن نظام (قحت) يقدم مبادرات عرجاء وكسولة لا تشبه حسم وحزم الجسم الرسمي للحكومة، الذي يفترض ان يكون ضابطاً في هذه الحالات، ومن طبيعة تصريحات رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك الذي وصف الكارثة بالطبيعية، يقيني أنّ حمدوك كان مصدوماً من هول المُصاب وغير قادر على التعبير الحقيقي كرجل دولة ينتطر أن يقدم التوصيف الحقيقي للمُشكلة وفق التقارير التي طرفه ومن ثم يصدر المُعالجات والحلول الجذرية للآخرين.
صحيحٌ من حجم التحديات الاستراتيجية الخطيرة غير التقليدية التي تُواجهها حكومة حمدوك أنّ ما تم في الجنينة أمرٌ طبيعيٌّ وتحدٍ تقليدي، ظل حاضراً في المشهد الدارفوري ويتكرّر من حينٍ لآخرٍ، ومن الواضح أن كارثة الجنينة تتضاءل أمام تلك التحديات التي واكبت ظهور المشكل، تأخّرت حكومة الثورة في الأخذ بخيار الدولة القومية الحديثة الذي رفع شعار: (يا مُفتري ومغرور كل البلد دارفور)، أكثر مما يلزم في التعاطي مع غرب دارفور، ذلك لأنّ الحكومة لابسة نظارة أوروبية سميكة وتنظر من خلالها للأشياء.
إنّ أهل الجنينة ورموزها في الخرطوم رفضوا ان ينتظروا وهم يشعرون بأنهم اليوم يُواجهون خطراً مُحدقاً وناجزاً غير مسبوقٍ، وأنهم كجزء من مُكوِّن الدولة المدنية ومُجتمعاتها قد سارعوا إلى تنظيم حلقة نقاش مُثمر احتضنته دار صحيفة “المستقلة” بالخرطوم بحضور عدد من القيادات والكوادر الصحفية والسياسية.. وقد أدار الجلسة بحكمة أهل دارفور السياسي والإداري المخضرم الدكتور التجاني سيسي، وقد أحسن الأخ علي حمدان في اختياره، لأنّه فعلاً يُعتبر حكيم دارفور وكلمته مقبولة، وكانت المُبادرة في توقيتٍ مُهمٍ حتى لا تضطرم نيران الصراعات الداخلية أكثر وتتجاوز تلك التي يُمكن أن تُسبِّبها حروبٌ أهليةٌ تقليدية إلى مهدِّد للأمن القومي للبلاد، إن دارفور كانت تفاخرُ بسَبْقِها بخيار الوحدة مع السودان، قبل أن تعصفَ بها «سرطانات» الطائفية الحزبية والتمردات، التي أدخلت نظام المُحاصصات وهو منهج رجعي عاجز عن تطويرِ الممارسة السياسية المستقرة، ولا يعكس التعددية السياسية الحقيقية لكل السودانيين رفض أهل الجنينة، ومن شارك معهم تلك الحلقة النقاشية رفضوا العصبيةُ القبليةُ، وكذا «الأيديولوجيا» السياسية، وبعض الشباب المُتحمِّسين ذهب إلى تخلف مثل هذه الفعاليات وعدم قُدرتها على بناء حُلُولٍ منيعةٍ لتقود إلى مُجتمعاتٍ مُستقرةٍ ومُمارسة سياسية فعّالة، لكن الغالبية أجمعت على أهمية الجلسة وما صدر عنها من بيان ختامي يُخاطب كل الجهات الشعبية والرسمية بأن يُؤدوا دورهم في بسط هيبة الدولة وتفعيل القانون والعمل بشرعية المُجتمعات الفاعلة في التعايش السلمي والرجوع إلى الأعراف التي كانت سائدة سابقاً، وفي الدولة المدنية، رغم مظاهر الحضارة «القشرية»، التي تطفو على السطح هذه الأيام، سواء على مُستوى الخطاب السياسي أو الاجتماعي، أو الاقتصادي والتنموي لقِوى الحُرية والتّغيير، إلا أنّه لا بُدّ من الاعتراف بالضعف البنيوي الداخلي للدولة السُّودانية وهو وَضعٌ يفسرُ إلى حدٍّ كبيرٍ، هشاشةَ وعدم استقرار الأوضاع سيما في الولايات والمناطق النائية وهذه تتطلّب حكمة ورؤية من نوع آخر.
إنّ تطوُّرات الأمن الداخلي وتوسُّع حيِّز الصراعات القبلية والمناطقية من ناحية استراتيجية يكشف عن تخطيط ومُؤامرة مُحدقة بالأمن القومي السوداني من خلال شَدِّ أطرافه، وهَذه تَحتاج لإعادة ترتيب الأولويات، حَسب مَجموعة القيم القوميّة، التي أرست دَعائم الاستقرار عبر التاريخ، ومن هُنا فإنّ سِياسة التقليل من أدوار الإدارات الأهلية ومَشايخ الطُرق الصوفية ورُمُوز المُجتمع هي خُطة وتدبير من جهات خارجية تعاونها مُكوِّنات محلية لضرب هذه القطاعات لأنّها الأكثر تأثيراً على المُجتمع وَشَكّلت عناصر شرعية لمُؤسّسات الأنظمة التي تَعَاقَبت على حكم السودان، منذ استقلاله.. ولذلك السودان بحاجة إلى مصالحة وطنية مخلصة أولاً قبل المشروع الدولي “الشغالين عليه مُوظّفو المنظمات الدولية”، وتعكس الطرق على قضية سيداو والحديث عن الحريات الدينية والإعلامية، داخل مُجتمعات السودان انصرافية الحكومة عن القضايا الاساسية التي تهم الشعب السوداني.. ولا بُدّ من تثبيت وعي راسخٍ بخُطُورة الخطاب السياسي الذي تقدمه قيادات الحُرية والتّغيير والذي مَسّ ثوابت الدين والمُجتمع، كأعظمِ خطرٍ استراتيجيٍ محدقٍ وناجزٍ بالأمنِ القوميِ السوداني، لأن رأس مال السودانيين في الحياة دينهم وعرضهم .