“جاني عريس”..!

“الكثيرون لا يعرفون أن البعض يبذلون جهوداً جبارة لكي يكونوا مجرد أناس عاديين” .. ألبير كامو ..!

شاهدت بالأمس مقطعاً مصوراً من إحدى حلقات برنامج يوتيوبي جديد، يبدو من بعض فقراته شبابياً .. ويبدو أيضاً أنه يدور في الفلك الاجتماعي لطبقة بعينها دون باقي الطبقات .. مضمون المقطع كان مجموعة مقالب تقوم بها مجموعة فتيات وذلك من خلال الاتصال بالأب أو الأم وادعاء ظهور عريس لقطة مفاجئ – “ماما جاني عريس” – لكنه يشترط ترك الدراسة والسفر معه للخارج .. هل عرفت الآن لماذا ذكرت لك أن البرنامج يدور في فلك طبقة اجتماعية بعينها ..؟!

لك أن تتخيل النتائج الكارثية لتعميم مثل هذا النوع من المقالب في مختلف أصقاع هذا السودان! .. على كل حال هذا هو الحال الذي آلت إليه أفكار البرامج الشبابية – المولودة من رحم برامج الفضائح والاعترافات العربية –  اختراق خصوصية الآباء والأمهات بنشر ردود أفعالهم المضحكة على قارعة اليوتيوب ..!

علماء الاجتماع المعاصرون يؤكدون أن التلفاز أكثر واقعية من الواقع نفسه، إلى درجة أن وعي الناس بمجريات واقعهم يتشكل ـ في الغالب ـ من خلال مشاهدتهم لبرامج التلفاز! .. فالبرامج التي تنتهج الإثارة ـ بحسبهم ـ ترفع من قيمة التسلية والترفيه على حساب القضايا العميقة، وتنصِّب العاطفة حكماً على حساب العقل، وتشجع الناس على أن يكونوا أكثر انطباعية في نظرتهم للواقع وأقل استعداداً للاقتناع بالمنطق..! 

وبما أن المحطات العربية تقوم بتعريب ما بين أربعين إلى ستين في المائة من البرامج الغربية ـ الأمريكية منها على وجه الخصوص ـ فإن مجتمعاتنا آخذة ـ لا محالة ـ في التحول إلى مجتمعات استهلاكية شاملة، أفرادها هم زبائن طيِّعون لتلك النوعية من البرامج .. والنتيجة مثل هذه البرامج التي ينتجها جيل تربى على تلك البرامج ..! 

لماذا تحقق البرامج التلفزيوينة – التي تعتمد على نشر الغسيل وتفصيل المقالب – أعلى نسب مشاهدة ؟! .. لماذا يستمتع البشر بنزيف الصراحة الذي يقطر من أفواه الضحايا؟! .. إلى أين تسير بنا قنواتنا العربية باستنساخها برامج نشر الغسيل الأمريكي والأوروبي مدفوع الأجر ..؟!

أرسطو يفلسف هذا السلوك البشري العجيب مؤكداً أن التفرج على عيوب الآخرين يشعرنا بالفرح، وأن رؤية الناس في مواقف حرجة تشعرنا بأننا أفضل حالاً منهم .. أو ليس هذا ما يحدث – بالضبط – لملايين المشاهدين العرب الذين لا يخفون استمتاعهم بمشاهدة برامج نشر الغسيل تلك ..؟!

إنه الفضول جبلة البشر، الذي يجعل بعضهم يستجيبون لإغراء التلصص من فتحات النوافذ المواربة، واستراق السمع من خلف الأبواب المغلقة! .. فما بالك بالأسرار والفضائح التي تأتيهم سائرة على قدمين، يفجرها أصحابها على مسامعهم طوعاً – بل عن طيب خاطر – أمام كاميرات التلفاز، طمعاً في جني الثروات من صفقات الأسرار.. الإغراء لا يقاوم، ولكل فضيحة جديدة ثمن باهظ يودع في حساب المتسابق الذي يجرؤ على إقرارها، فوراً على الهواء مباشرة ..! 

يبدو ـ والله أعلم ـ أن العرب المذعنين لمقتضيات العولمة والمندفعين بانبهار خلف قشور الحضارة الغربية المتحررة، قد فشلوا في اختبار حقيقي ودقيق لفحص مسلماتهم الثقافية المستوردة من مناخات مغايرة لا تشبه تضاريسهم الاجتماعية في شيء ..! 

إلى متى سوف يصمد اقتناع المشاهدين العرب بتفصيل قماشة أعرافهم وتقاليدهم المتحفظة ـ والمتوارثة بلا أدنى تغييرات جوهرية تقريباً! ـ على باترون (ميني جيب) برنامج يتغذى على الفضائح ..؟! والذين يشاركون في حلقات النسخ العربية من تلك البرامج، هل يفعلون ذلك بوازع من قناعاتهم الشخصية .. أم إنه حلم الثراء السريع الذي بات هاجس معظم مشاهدي المحطات الفضائية التلفزيونية في مجتمعات الاستهلاكية/ الكسولة ..؟! 

تلك الأحلام التي نجحت قنواتنا الفضائية في التسويق لنجاحها شريطة أن يتحلى كل من تسول له نفسه الجلوس على ذلك الكرسي بأكبر قدر ممكن من الاستهتار بالخصوصية، وأقل قدر ممكن من المبالاة بالفضائح ..!

منى أبو زيد

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى