شارع المطار الجايي من جنوب الخرطوم كان أغلبه (عزابة) و(راجلين) على (قشرة) افتقدت الذوق والبساطة.. لكنها اهتمت بإظهار ابتهاجها بالحدث.. ألوان وقلوب شتى..
بصُعوبة بالغة اتخارجنا من الازدحام.. حين وصلت إلى المقهى القريب من ساحة الاحتفال، انهالت علينا الأقاصيص والحكايات التي نقلها القادمون من الجهات الشمالية الشرقية حتى لم يعد للصور التي نحملها مكانٌ للحكايا أمام المشاهد المُزخرفة بجرسها الفاتن.. صنوف ملونة من المدنياااااو.. والدنيا طيبة…
لن أفسِّر… وأرجو ألا تقصر…
لكنني كنت خائفاً إذا ما التقى الجمعان.. وكلاهما لهما في خدمة الثورة عرق!!
بعد ساعتين احتجت للوصول إلى طوارئ المستشفى إثر اهتياج مفاجئ للمرارة واخترت الطرق الشمالية الشرقية.. كانت قد تغيّرت.. اختلفت بالكلية عن تلك الحكايات التي سردها الأصدقاء.. الشوارع ليس فيها إلا التوترات وغلبة البغضاء والفوضى وقهر العابثين..
اخترت دار العلاج لأسباب مُتعدِّدة من بينها الهدوء.. لكنني وصلتها بمُجازفات حقيقيّة.. وكأنني في حرب الشوارع.. ربك سلم..
فحتى إذا ما بدأت الحقن المُسكِّنة في السريان إلا وأصر المشهد العام على تهييج المرارة مُجَدّداً.. بدأت أفواج من الجرحى تفد إلى المستشفى جراء السواطير.. الأحداث – وفق ما تصنتته مرارتي – نشبت مُتفرِّقة بلا ترتيبٍ رغم تشابُهها.. حتى إن المصابين وزملاءهم (عدّوها) من باب الضريبة اللازمة لإكمال الميلاد الجديد.. رغم أن الجروح قطعية لكنهم كانوا يحاولون بإصرارٍ غريبٍ إثناء طبيب الطوارئ عن فكرة أورنيك (8).. لا يُريدون الذهاب إلى قسم الشرطة.. لأن ليس فيهم رجل رشيد واحد جراء السموم السارية فيهم.. خوفهم المقيم من اكتشاف ما احترزوه لأجل يوم الميلاد الذي لم يكن سعيداً أبداً.
آثرت أن أعود بآلامي وآلام الوطن إلى البيت..
و(الشر كان بات تلتينو مات)..
وانتظرت إلى ما بعد الفجر لأعود لذات الطوارئ.. كانت الخرطوم مُتجهمة ولكنها هادئة وعلى ذات طوارئها..
خلد الثوار والنيقروز والمُولفة تنانيرهم وبعض عناصر كولومبيا إلى المخادع هوناً ما، وخرجت الثكنات لتظهر بعضاً من مظاهر السلطان بعد فوات الأوان..
وجريمة القدوم متأخراً إن كانت (مقصودة) مثلما اتّهم بيان تجمُّع المهنيبن والذي أشار بوضوح لتلاعُب المُكوِّن العسكري بالمشهد لصالح إضعاف المُكوِّن المدني فتلك جريمة أخرى، بل وأكبر، إذ أن أمن الناس وأمانهم ليست عُنصراً من عناصر اللعبة.. ولا ينبغي اللعب بهذه النار مُطلقاً.. بيان التجمُّع بدا واثقاً من خيانة العسكر، وأظن أن البيان كان يحاول دون جدوى تنظيف أيدي المدنيين مما جرى في ميادين الجرائم المنفتحة على نحو متساوق في أنحاء مُتعدِّدة من البلاد.. وتلك حيلة مُبتذلة ومُكر لا يحيق إلا بصاحبه..
تبادُل الاتهام والعرائض لا يُجدي… مزيد من الانخراط في مُنهمك الجُهُود المُشتركة لبناء الثقة دُون تخوينٍ أو تخذيلٍ هو السبيل الوحيد الباقي لنا جميعاً على مُره وأساه وصعوبته…
تعلّموا من ذات العساكر الذين تتأففون من رفقتهم كيف يأكلون معاً (حلوها ومُرها) فلا يَعرف (التخرت) طريقاً إليهم وإن (لاكوا القرض) وأكلوا (الجلود).. تعلّموا منهم كيف السمو على الجراحات ورعاية المصالح العليا للبلاد والعباد، أرعوا مواثيقكم وتحلّلوا من تلك الأسمال البالية التي ربطتكم والأسباد..
كونوا وجوهكم..
اصنعوا لخطوتكم تاريخ ميلاد جديد يبدأ من مُمارسة بعض النقد الذاتي لما رُشح من ظُهُور سالبٍ للجان المُقاومة في الجنينة وجنوب دارفور وكادُقلي ومُستشفى أمبدة وساحة الحرية الخضراء التي أضحت خراباً!!
تلك ليلة انفقعت فيها مرارتي واستبان بما لا ينتطح فيه عنزان أننا نحتاج غطاءً أخلاقياً لازماً للتفريق بين ما هو لازم ومُتعدٍ، لا يستحق مُتجاوز مهما علا أو سفل أية حصانة.. ولتكف قِوى الحُرية والتّغيير عن التعامي عن أخطاء منسوبيها.. عليهم التخلُّص من عبء تلك العلاقات القديمة المُكلّفة والانتصار لمُستقبلنا..!!