بعد مائة وخمسة وثلاثين وبعد أربعة وستين عاماً على الاستقلال السودان للسودانيين أين ذهبت؟
في اليوم التاسع عشر من شهر ديسمبر «1955م» ميلادية تقدم العضو عبد الرحمن دبكة عن دائرة بقارة غرب نيالا من حزب الأمة باقتراح بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان وأن يكون يوم «1/1/1956م» هو اليوم الذي يصبح فيه السودان جمهورية مستقلة ويطلب البرلمان من الحاكم العام الطلب إلى دولتي الحكم الثنائي «بريطانيا» ومصر الاعتراف بهذا الاستقلال. وثنّى الاقتراح النائب مشاور جمعة سهل نائب دائرة دار حامد من الحزب الوطني الاتحادي، وقد تحدث السيد محمد أحمد محجوب زعيم المعارضة مؤيدًا وأطنب في هذا وأن هذه كانت أشواق السودانيين منذ أن فقدوا استقلالهم في ضحوة ذلك اليوم في عام «1898م» وبعد معركة أم دبيكرات، وفي عام «1916م» بعد مقتل السلطان علي دينار، وقد حدّد البرلمان في قراره الذي تمّت إجازته بالإجماع أن يكون اليوم الأول من شهر يناير 1956 هو اليوم الذي يصبح فيه السودان دولة مستقلة ذات سيادة وأن يُطلب من دولتي الحكم الثنائي الاعتراف بذلك، وقد وافقت دولتا الحكم الثنائي على طلب البرلمان في الخطابات المتبادلة بذلك الخصوص والتي نورد نصها فى هذا المقال لاحقاً..
وفي صبيحة اليوم المحدد تم الاحتشاد والاحتفال في ساحة القصر الجمهوري «قصر الحاكم العام سابقاً» بإنزال علم بريطانيا وطيه وتسليمه لمندوبها وإنزال وطي علم جمهورية مصر، وتم عزف السلام علم جمهورية مصر وتسليمه لمندوبها في احتفال عظيم تم فيه رفع العلم السوداني بألوانه الثلاثة الأزرق والأخضر والأصفر على السارية بواسطة رئيس الوزراء المرحوم إسماعيل الأزهرى والسيد محمد أحمد محجوب زعيم المعارضة وتم لأول مرة عزف السلام الجمهوري السوداني.
وكان البكباش زكريا محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة المصري قد عبَّر عن سروره ورغبة الحكومة المصرية في استجابتها لرغبة البرلمان السوداني وتم عقد اجتماع في القاهرة بين الحكومة المصرية والسفير البريطاني لبحث هذا الأمر. وفي لندن التقى السيد هارولد ماكميلان رئيس الوزراء مع السيد نوكس هولم آخر حاكم عام بريطاني للسودان وأعلنت الحكومة البريطانية بأنها ستنظر بعين الاعتبار لقرار البرلمان السوداني وستتباحث مع الحكومة المصرية حول هذا الأمر.
وكان الصاغ صلاح سالم الذي كان له دور كبير في التبشير بالدعاية المصرية للاتحاد مع مصر وإنفاق الأموال المصرية والدعاية الكثيفة لمرشحي الحزب الوطني الاتحادي والتي وصلت إلى حدود الرقص بزي غير محتشم، وقد وصل الخرطوم صبيحة يوم العشرين من ديسمبر «1955م» في زيارة وُصفت بأنها شخصية والتقى السيدين الإمام عبد الرحمن المهدي راعي الحركة الاستقلالية، والسيد علي الميرغني مرشد الختمية، وزار أيضًا السيد إسماعيل الأزهري ولم تورد لنا المصادر أنه زار السيد محمد أحمد محجوب زعيم المعارضة كما تقتضي الأعراف. وقد أصدرت الحكومة المصرية بيانًا بالاعتراف وأرسل جمال عبد الناصر رئيس حكومة جمهورية مصر في الأول من يناير 1956م رسالة موجهة لرئيس مجلس وزراء حكومة جمهورية السودان حمل الاعتراف الصريح والرغبة في التعاون وحسن الجوار كما أرسل السيد سلوين لويد وزير الخارجية البريطاني رسالة للسيد إسماعيل الأزهري رئيس وزراء السودان أعرب فيها عن تأييده لقرار البرلمان السوداني وطلب التعاون مع حكومة السودان للتعاون على اتخاذ جميع الخطوات التي تؤدي إلى تصفية الحكم الثنائي، وقال إن الحكومة تثق بأن حكومة السودان ستلتزم بجميع المعاهدات والاتفاقيات الموقعة، ورد الأزهري بأن طلب من حكومتي الحكم الثنائي تجديد الاتفاقيات وأن حكومة السودان الجديدة ستنظر فيها جميعًا. ومعلوم أن الاستقلال لكل الدول لا يأتي إلا بعد جهد وجهاد طويل وقد بدأ العمل على استعادة استقلال البلاد من المستعمِر حتى قبل أن تنتهي المعركة في كرري وحتى قبل أن تبدأ إذ اتضح لقيادة الدولة المهدية من المعلومات الاستخباراتية التي تم الحصول عليها من المعارك التي سبقت المعركة الفاصلة الكبرى في كرري وأبو طليح وكربكان وغيرها أن القوة غير متكافئة وأن البلاد مخترَقة من أقصاها إلى أقصاها بواسطة مخابرات ونجت والمصريين وغيرهم، وأن كثيرًا من المجموعات والأفراد والقبائل يتعاونون مع المستعمِر والغازي الجديد القديم لأسباب مختلفة بعضها عقدي وقبلي ونفعي وشخصي ومنافع وُعدوا بها أو ملك استلبوه أو تجاوزات ارتُكبت في حقهم وجعلتهم يعبرون الحاجز الكثيف للتآمر، ولم تكن هذه المرة الأولى ولا الأخيرة في تاريخ السودان ولا غيره من الشعوب وحتى في الثورة الأمريكية للاستقلا، فقد كان هنالك تعاون كبير من عدد من الأمريكيين مع البريطانيين والفرنسيين لمعاونة البريطانيين ضد الجيش القاري الأمريكي بقيادة جورج واشنطن، وفي السودان فمن الثابت أن هنالك مراسلات ورسلاً جرت بين الحاج محمد علي باشا في مصر والحجاز تحرّضه على غزو السودان وفتحه وتخليصه من الهمج وبعض الزعماء ذهبوا له شخصيًا في الحجاز ومصر وأغروه وزينوا له.
وفي عهد المهدية لم يكن هذا بدعًا فقد استمر البعض على توادهم وتراحمهم وتراسلهم مع المستعمر ولم تنقطع صلاتهم قط، وازداد كيدهم عند ظهور المشكلات والصعوبات التي واجهت الدولة المهدية المحاصرة من الأعداء من كل جانب كل يحمل إحنًا وضغائن ومطامع. وقد أورد إبرهيم فوزي باشا فى كتابه “السودان بين يدى غردون و كتشنر ” خاصة الجزء الثالث منه كثيراً من وثائق المراسلات التي تمت بين كثير من الزعماء وونجت باشا مدير استخبارات الجيش الاستعماري الغازي، وقد تم اجتهاد كبير لإخفاء هذا الجزء من الكتاب.
وفي كرري كانت الموقعة الحاسمة وكان الذين سقطوا شهداء يدافعون عن استقلال الجميع وكرامتهم وقد استبسلوا وهم يعلمون الفرق الشاسع في العدة والعتاد، وقد تم تخليد ذلك في أدب وقصائد من عديدين، ومن هؤلاء الجد للأم البدري بن الشهيد الأمين ود البدري، وكان والده قد استشهد في أول دفرة للخيل بقيادة الأمير إبراهيم الخليل، حيث عدَّد الشهداء من المحيريبا من مختلف القبائل من المسلمية والجموعية والكواهلة بلا انتقاص لمن لا يعرف، حيث قال في ملحمة طويلة:
وأذكر للأبي أب فضلا مــو غبي ** من هو صبي صائم تائب
حين وقع مضروب ثابتا مو مرعوب ** قال هذا وهذا المطلـوب
يوم الجمعة الضهر زغردن الحــــــــــور ** شايلات بخور عنبر وكافور
وملكًا لن يـــــــزول
وأذكر ناس ود البدري ** الفــازو من بـــدري
وفي الجنة أم قــدر ** لقـــوا ليلة القــــــــدر
نواصل