الغِيرة على الأعراض
الغِيرة على الأعراض
البروفيسور عارف عوض الركابي
لقد قيل: (كل أمة وُضعت الغيرة في رجالها، وُضعت الصيانة في نسائها). وقد وصل أهل الجاهلية في الغيرة أن جاوزوا الحد، حتى كانوا يوأدون بناتهم مخافة لحوق العار بهم من أجلهنّ. وأول قبيلة وأدت من العرب قبيلة ربيعة، وذلك أنهم أُغِيرَ عليهم فنهبت بنت لأمير لهم، فاستردها بعد الصلح، وخُيّرَت على رضا منها بين أبيها ومن هي عنده، فاختارت من هي عنده، فغضب والدها وسن لقومه الوأد ففعلوه غيرةً منهم، وشاع الوأد في العرب بعد ذلك. حتى جاء الإسلام وحرمه (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ(9)).
كان هذا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام حمد الغيرة، وشجّع المسلمين عليها، ذلك أنها إذا تمكّنت في النفوس كان المُجتمع كالطود الشامخ حميةً ودفاعاً عن الأعراض.
إن كل امرئٍ عاقلٍ، بل كل شهمٍ فاضلٍ لا يرضى إلا أن يكون عرضه محل الثناء والتمجيد، ويسعى ثم يَسعى ليبقى عرضه حرماً مصوناً لا يرتع فيه اللامزون، ولا يجوس حماه العابثون.
إنّ كريم العرض ليبذل الغالي والنفيس للدفاع عن شرفه، وإن ذا المروءة يقدم ثروته ليسد أفواهاً تتطاول عليه بألسنتها أو تناله ببذيء ألفاظها. نعم إنه ليصون العرض بالمال، فلا بارك الله بمال لا يصون عرضاً.
بل لا يقف الحد عند هذا، فإن صاحب الغيرة ليخاطر بحياته ويبذل مهجته، ويُعرِّض نفسه لسهام المنايا عندما يُرجم بشتيمة تُلوّث كرامته. يهون على الكرام أن تُصان الأجسام لتسلم الأعراض. وقد بلغ ديننا في ذلك الغاية حين قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من مات دون عرضه فهو شهيد). بصيانة العرض يتجلّى صفاء الدين وجمال الإنسانية، وبتدنُّسه ينـزل الإنسان إلى أرذل الحيوانات بهيمية.
يقول ابن القيم – رحمه الله -: “إذا رحلت الغيرة من القلب ترحَّلت المحبة، بل ترحل الدين كله”.
ولقد كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام من أشد الناس غِيرةً على أعراضهم، لقد قال النبي – عليه الصلاة والسلام -: (أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني) ومن أجل غيرة الله حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. والحديث أصله في الصحيحين.
من حُرم الغيرة حرم طُهر الحياة، ومن حرم طُهر الحياة فهو أحطُّ من بهيمة الأنعام. ولا يمتدح بالغيرة إلا كرام الرجال وكرائم النساء.
فهذا هو الذي كانت عليه الأمة في مجدها الزاهر، وهو (المأمول) من المسلمين حتى يعودوا للدنيا سادة وأكابر!!، قال الشاعر القحطاني الأندلسي:
إن الرجال الناظرين إلى النساء *** مثل الكلاب تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحومَ أسودُها*** أُكِلَت بلا عِــــــــــوَض ولا أثمـــان
فيا صاحب الغيرة كم للفضيلة من حصن امتنع به أولاد النخوة فكانوا بذلك مُحسنين، وكم للرذيلة من صرعى أوردتهم المهالك فكانوا هُم الخاسرين.
في ظلال الفضيلة عفة وأمان، وفي مهاوي الرذيلة ذلة وهوان، والرجل هو صاحب القوامة في الأسرة، وإذا ضعف القوام فسد الأقوام!! وإذا فسد الأقوام خسروا الفضيلة وفقدوا العفة وتاجروا بالأعراض وأصبحوا كالمياه في المفازات يلغ فيها كل كلب ويكدر ماءها كل وارد.
وقد وردت أحاديث في ذم من فقدت عنده الغيرة، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق بوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث). وفي هذا وعيد شديد ولو عقله كثير من أولياء أمور من ظهر فسادهن من الفتيات ربما لكان موقفهم غير ما هم عليه!!
إن (الجهل) بعظم المسؤولية التي سيُسأل عنها كل رب أسرة هو من أبرز أسباب ضعف الغِيرة على الأعراض، ويُضاف إلى تلك الأسباب (الفهم المنكوس) و(الفقه المعكوس) الذي رَسَخَ في أذهان البعض من أن هذا العرى وهذا الاختلاط وهذه الممارسات هي من لوازم المدنية والحضارة ومن مُقتضيات الألفية الثالثة!! فَتَبّاً لها من عقول وما أسوأها من أفهام!! ومن تلك الأسباب ما انتشر وينتشر من أغانٍ ساقطة، وأفلام آثمة، وسهرات فاضحة، وقصص داعرة، وملابس خالعة، وعبارات مُثيرة، وحركات فاجرة، ما بين مسموعٍ ومقروءٍ ومُشَاهدٍ في صور وأوضاع يندى لها الجبين مع قلة من ينكرون تلك المنكرات العظيمة، والتي لها التأثير السريع لدى أصحاب الفطرة السليمة!! ومَعلومٌ حُب التقليد لدى كثيرٍ من الفتيات وركضهن وراء ما يرين من الموضة والجديد، فيصبح الأمر عادياً لدى كَثيرٍ من الأولياء بسبب الكثرة والانتشار.
فماذا ينتظر آباء وأولياء أمور هؤلاء الفتيات؟! أليس في القصص التي تحكى صباح مساء عبرة لهم؟!!
والذي يزداد به العجب من هؤلاء (المُستغربين) أنّهم وإن جهلوا هذه النصوص وهذا التشريع فهل يجهلون أيضاً الواقع الأليم وثمار هذا التبرُّج والسفور والفساد العريض؟!!
(إنما المؤمنون إخوة) هكذا يوجه القرآن و(المسلم أخو المسلم) كما أوصى المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهذا يُوجب أن ينظر كل مُسلمٍ لعرض أخيه المسلم وكأنّه عرضه هو، وهذا والله مِمّا يجب أن يجتهد المُجتمع في بلوغه، فإذا رأى الرجل فتاة تسيئ بتصرُّفاتها، فعليه أن ينصحها بالأسلوب المُناسب ويشعرها أنّها كابنته أو أخته، وهكذا الأخوات اللائي هن في عافيةٍ وسترٍ وعفافٍ عليهن أن يكثرن من نصح من يرين من أخواتهن من أخطاءٍ في لبسٍ أو مُمارساتٍ، وبذلك يتعافى المجتمع – بإذن الله – ونعيش في أمنٍ واستقرارٍ ورخاءٍ ونسلم من اللعنة التي أصابت بني إسرائيل بسبب تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأرجو أن يُفيد من نصحي المُوجز هذا كل من فرّط في هذا الأمر الخطير، وأهلنا قالوا: (الفضيحة والسترة مُتباريات).