حالة وطن
الجُرح ينزف غرباً وشرقاً، كأنما كُتب على السودانيين أن تسيل دماء أبريائهم بلا سبب ومُبرّر، بمجرد أن تثور المشاعر القبلية البغيضة والعنصرية النتنة، تُصبح الأرواح أرخص من ذرات التراب، تُزهق بلا طائل، وتُسفَك الدماء بلا هوادة، وتجتاحنا جميعاً هذه الحالة من الحُزن والفجيعة، ويعتصرنا الألم القاتل، ويشل التفكير الوطني في إيجاد حلول تُنهي هذه المذابح وأنهار الدماء والدموع الجارية، تتهرّب ذواتنا ونزواتنا السياسية، ونحن نرى هذا الواقع المؤسف، ولا نستطيع أن نفعل حياله شيئاً، وهو أكبر من الحكومات والأنظمة وأعمق أثراً من أي سلطة كانت ..
بالأمس كانت بورتسودان في الشرق، وبعد اتخاذ الإجراءات المطلوبة قبل أسابيع ظننا أن الجرح في طريقه للاندمال والبُرء، فاجأتنا الجنينة في أقصى الغرب، فتوجّهت الدولة كلها إلى هناك، قبل أن تجف دماء أهلنا في غرب دارفور، انفتح جرح بورتسودان مرة أخرى أكثر عنفاً وأشد بأساً، فأصبح الحريق شرقاً وغرباً ونخشى انتقاله إلى جهات أخرى لأن الأوضاع السائلة حالياً تُسهّل انتقال العدوى بسرعة، وتُعجّل بالانفلات والفوضى إذا لم يتحرّك الجسد الوطني كله وينسى الجميع انتماءاتهم وتحيُّزاتهم وينطلقون لحل هذه الأزمة الطاحنة ووقف هذا الموت الجماعي ..
لم تعًد الحلول الحكومية وحدها تكفي، لأن القوات الموجودة في كل من الجنينة وبورتسودان، بحساب السيطرة وفرض سلطان الدولة كافية، لكن المشكلة أكبر من ذلك، هي أزمة ضاربة بقوة في عصب المجتمع ومفاهيمه للتعايش والسلم والاندماج، فالعصبية للقبيلة والعنصر باتت أقوى من أي رابط آخر، والولاء لها أكبر من أي ولاء، لن تستطيع الدولة بسهولة نزع هذه المفاهيم من عقول ونفوس المواطنين بالقوة والقانون وحده، ولن تتوقف هذه الصدامات الدامية لمجرد نشر قوات أو تكوين لجان للتحقيق أو عقد مؤتمرات للصلح ينتهي مفعولها بالجلسات الختامية وإعلان التوصيات والقرارات، لابد من البحث الجاد عن أدوار أخرى ينشط فيها المجتمع، أين الكبار في السودان من قيادات المجتمع، زعماء الطوائف والطرق الصوفية وزعماء القبائل ووجوهها وأعيانها، ورموز مجتمعنا الفاعلة في كل مجال تجارة وصناعة وأدبائه ومعلميه ورياضييه ومُبدعيه؟ كل من له أثر على المجتمع يجب أن يتحرك من مكانه ليخاطب ويسهم ويعمل حتى توقَف الدماء النازِفة ويُقبِل أطراف النزاع على بعضهم أخوة متحابين متصالحين بينهم العفو والتسامح ..
مجتمعنا يمتلك خصائص أكبر أعظم وأقوى من المجتمعات الأخرى التي باتت مضرب الأمثال في التسامح والتصالح كما حدث في بلدان أخرى، لكنه يحتاج إلى من يُنبهه ويحرّك فيه هذه الروح الجماعية حتى تعمل وتنفعل بما يجري، لا يوجد حل نهائي لدى الحكومة وحدها مهما فعلت، هي عنصر مساعد فقط يوفّر الأرضية للحل، لكن الحل بأيدينا نحن، أذا شمّرنا عن سواعدنا وخرج كثير من قيادات هذا البلد في أي مجال من المجالات الحيوية الفاعلة والمؤثرة من الخرطوم وانتشروا في مناطق النزاعات هذه، فما الذي سيحدُث ؟ سنجد الجميع رهن الإشارة، إذا ترك القادة السياسيون تعصّبهم لأحزابهم وخلع رجال التوجيه والإرشاد من أهل التصوف وقادة الجماعات والسجادات الدينية تحيّزهم فقط بطرقهم، واختار أهل الفنون والآداب والإبداع جمهورهم الحقيقي وانحازوا له، وغادروا خرطومهم هذه وافترشوا الأرض في الجنينة وبورتسودان يواسون المكلومين ويسمحون دموع الثكالى واليتامى ويمسكون بأيدي الغاضبين، سيخرج حتمًا مجتمعنا من محنته، وسيتواثق الجميع على حلول نهائية وستوضع أسس جديدة ومقنعة مستنبطة من تاريخنا وتراثنا للتعايش والتراضي والتسامح .
نستطيع توليد حلول جديدة ومبتكرة استناداً على الأعراف والتقاليد والمصالح والكسب والربح المشترك بين كل مكونات القبائل وشرائح المجتمع، إذا جلسنا جميعاً على الأرض وعلى التراب، سنرى هذا المَخرَج وسنًحافظ على وطن حافَظَ عليه الآباء والأجداد ولم يمُر يوماً بمُنعطف مُهلك وخطير كما يمُر به الآن ..