وجدتُ أن الحال التي تعيشها بلادنا الحبيبة في هذه الأيام تستدعي إعادة هذه الدعوة وتجديدها فأقول :
إذا أراد الله بنا (الرحمة) فلا راد لحكمه سبحانه وتعالى، وإن وعده لا يخلف عز وجل .. فإذا حقق أهل المجتمع التراحم فيما بينهم فإن وعداً عظيماً ينتظرهم، منه قول النبي عليه الصلاة والسلام : (الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه الترمذي والبيهقي وغيرهما..
فإذا رحم كل منا من حوله، فإن الجزاء من جنس العمل، وسنرى رحمة الله تتحقق فينا، ومهما رأينا من التفريط الظاهر في هذا الجانب في مجتمعنا، إلا أننا لا نيأس من الخروج بمنحة عظيمة من المصائب والمحن الكبيرة .. ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .. لنحقق التراحم فيما بيننا .. ليرحم ولاة الأمر والمسؤولون في الدولة ومن آل إليهم أمر الحكم في بلادنا لفترة (مؤقتة انتقالية) ليرحموا على تنوع مناصبهم رعيتهم، وليشفقوا عليهم وليبذلوا كل ما بوسعهم لتوفير ما الناس بحاجة إليه، وليجتهدوا في مساعدتهم بكل مستطاع، وليركزوا على قضايا المواطن المسكين الذي يعاني في جوانب كثيرة في حياته، ولينأوا عن كل ما يفسد الحال، ويثير القيل والقال، وليبتعدوا عن مسّ ثوابت المسلمين التي تقف شاهقة كالجبال، فإن استفزاز المسلمين في شعائرهم وثوابتهم هو من أخطر ما يترتب عليه ردّات الأفعال، والمسؤول يطالب في التهدئة أكثر من غيره من عامة الناس، وإن مكانة المسؤول بين رعيته واحترامهم له تناط بعدله بينهم ونظره إليهم بنظر واحد .
وليرحم الكبير الصغير، والقوي الضعيف، والغني الفقير، والعالم والداعية الجاهل، والمعلم المتعلم، والطائع العاصي، والتجار عامة الناس، وليرحم الطبيب المريض، وليرحم صاحب العمل العامل، لنحقق مظاهر التراحم من التعاون على البر والتقوى، ومن خفض الجناح، وبذل المعروف بكل أنواعه، وغض الطرف عن الزلّات، ومعالجة الأخطاء بالأسلوب العلمي والنقد الموضوعي، ومما ورد في هذا المعنى العظيم من تأكيد مقام التراحم قول من وصفه الله تعالى بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم عليه الصلاة والسلام حيث قال : (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) رواه البخاري ومسلم .
لنهرب بأبداننا وأرواحنا ولنساعد أهل مجتمعنا في أن نهرب جميعاً ونفر من الوعيد الشديد الوارد في قول نبي الرحمة: ( مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ) رواه البخاري ومسلم.. إنه وعيد شديد بأن الله سبحانه وتعالى لا يرحم من لا يرحم.. وبقدر التفريط في رحمة الآخرين يكون تحقق هذا الوعيد، وهو نتيجة لأمر محدد ومعين، ومن يتدبر هذا الأمر، وينظر في أحوال الناس ــ إلا من رحم الله ــ لا يستغرب من تتابع الفتن والمصائب .. ففساد عريض ينتشر، وباطل ومنكر يتزايد، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وتطاول على ثوابت الدين وشعائر الملة، مع قلة في الحكماء وأهل البصيرة، وفي المقابل تصدر رؤوس جهال، ونطق كثير من الرويبضات في أمور العامة..
ولكن مع هذا وذاك.. نتفاءل بأن المحن تعقبها منح.. (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) .. إن إدراك كثير من الناس لخطورة قسوة بعضنا على بعض، ومن ذلك حرصهم على نبذ (الحزبيات) التي هدّمت ولم تبن، وفرقت ولم تجمع، وسعيهم للمعافاة من أدوائها المستعصية (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) سورة الأنفال، وهي فرصة لوضع (العنصريات القبلية) التي روّج لها أعداؤنا في مجتمعنا ووجدت قلوباً مريضة أشربت من خبثها وسوئها، فرصة لوضعها في محلها اللائق بها (تحت الأقدام) كما وضع نبي الهدى والرحمة كل أمور الجاهلية تحت قدميه.. فالمجتمع كله مثل ركاب اجتمعوا في سفينة واحدة إن غرقت غرق كل من فيها ، ولا يعني ذلك تمييع قضايا الاختلاف بين طوائف المجتمع وجماعاته فضلاً عن إنكارها، فهو اختلاف قديم ومستمر فالمجتمع يتكون من شرائح عديدة وطوائف تختلف في ما بينها في كثير من القضايا والأصول ومسائل الاعتقاد، وإنما أعني أن يكون ذلك في الطرق العلمية والموضوعية والردود العلمية ومناقشة أقوال وأفكار الآخرين بالمشافهة أو الكتابة أو المناظرة، بعيداً عن أساليب التهديد والاعتداءات، مع التأكيد بأن الواجب على الجميع الاجتهاد للاجتماع على الحق، على كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وتحكيمهما في كل القضايا والمواقف والمعتقدات والأقوال، فإن ذلك من الاعتصام بحبل الله، وقد أوجب على كل عباده أن يعتصموا به ولا يتفرقوا عنه..
علينا في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها بلادنا بالهدوء والسكينة، وخفض الجناح، والصبر والحلم والتحمل والعفو والصفح، وتغليب المصالح العامة والاحتكام إلى الشرع الحكيم والعقل السليم والعرف القويم.
إننا بحاجة إلى تحقيق أسباب رحمة الله بنا، وهي أسباب كثيرة، رغبت أن أصدرها بهذا السبب تذكيراً به، وتأكيداً على أهميته.
وإن من أسباب الرحمة الأخرى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله قال الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) سورة التوبة .. ومنها قراءة القرآن الكريم والاستماع إليه والإنصات قال الله تعالى : (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) سورة الأعراف، ومنها الاستغفار قال الله تعالى : (لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) سورة النمل .. ومنها التقوى والإيمان بآيات الله واتباع رسوله عليه الصلاة والسلام ، قال الله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ..) سورة الأعراف.
فلنجتهد في تحقيق هذه الأمور طاعة لله ورغبة في ما عنده ، وليرحمنا بسببها، فإنه لا يخلف وعده .. جل في علاه ..
وبالجملة فإن رحمة الله بخلقه إكرام منه جل وعلا لمن آمن به واتقاه وأطاعه وأطاع رسوله عليه الصلاة والسلام ، ومن ذلك الرحمة بخلق الله تعالى ، والإحسان إليهم، فهو سبب عظيم في أن ينال العباد رحمة خالقهم، وقد أدخل الله رجلاً الجنة لأنه سقى كلباً ماءً، فما بال بعض الناس قد حرموا أنفسهم من أسباب الرحمة وهم يقدرون على تحقيقها؟! بل إن بعضهم وقع في أسباب منعها، فمن لا يَرحم لا يُرحم..
نتمنى من كل من يتطاول على ثوابت الدين الإسلامي أن يكف أذاه حتى لا يهيّج الناس عليه، وعندما يكف أذاه تلقائياً سوف تنعدم ردّات الأفعال، فليس من العقل أن يتهجّم البعض على شعائر الدين وأعراف أهل هذا البلد الكريم ثم يشتكي من ردّات الأفعال !! ننتظر أن يستقيم الجميع على ذلك ويتجه الجميع إلى إعمار البلاد متعاونين على البر والتقوى..