من بين كل الذين انضموا إلى طاولة العشاء في مطعم (آخر الليل) كنت منشغلاً بمراقبة (ود الجترة) الذي انضم إلينا بعد (تحانيس) بذلناها معه.. بدا قلقاً وهو ينقل عينيه في المكان.. كأنما أضاع شيئاً ما، لا يرغب في استعادته بينما يخاف في ذات الوقت عاقبة ومسئولية فقدانه..
أعرف أنه (كوز) من الدرجة الأصلية ذات الدفع الذاتي (أبو استك).. ما أن تهبشه حتى (يدور استارتر).. مشى الى الجنوب مجاهدًا في كل هيعة وكل نداء.. وعاد دون أن يسموا شارعاً باسمه ولا ميداناً. .. كنت أسمع من بعض رفاقه كيف فجر الدبابة، وكيف اقتحم كمين (خور كيت) ببسالة أقرب إلى الجنون.. لكنه يؤثر ألا يحكي.. حتى قابلته بعد آخر اعتراكاته وقبل يوم العشاء .. عائداً من تحرير (ابكرشولا)..
يومها كان قادراً على الحكاية.. إلا أن حكايته الأولى والأخيرة كانت ملأى بالأسف.. فقد اشتملت على تجربة مريرة من الأسر كادت أن تودي بحياته.. وكيف أنه شاهد مصيره من بين فتحات (الكرنك) حبيساً، لولا عناية الله التي أرسلت (الانتنوف) فبددت شملهم وفكت أسره…
رأى مشاهد الإعدام لإخوته.. غير بعيد من الكرنك المحبوس فيه… المنفذ للإعدام كانت امرأة مفتولة العضلات و(فاتية)!!
قال إنه حفظ ملامحها عن ظهر قلب بل وحتى تفاصيل الفأس في يدها!!
التنفيذ كان بالفأس … بعد جلسة محاكمة ميدانية قصيرة تبدأ وتنتهي دون أن يتفوه المتهم المدان ببنت شفة..
يؤتى بالمدان أمام (العشماوية) وبالفأس تقفز عالياً ومع صرخة هستيرية تنزل بالفأس علي الرأس تماماً… ضربة واحدة فقط ثم لا يبقى في المكان إلا الدماء وصرختها العواء..
كان دور ود الجترة هو التالي لولا حضور الأنتنوف !!…
لم أقابله بعدها حتى لقيته في مطعم آخر الليل..
أدهشني أنه احتفظ بذات (البوكس) الأسري الأثري القديم.. وحين حلفنا عليه مشاركتنا العشاء قال وهو يخطو معنا للداخل:
(ما تقولوا لي شيرنغ ولا بطيخ.. أنا قرش أحمر ما عندي ليكم)..
وكان صادقاً رغم مزاحه..
رحم الله أمه التي كانت تمازحني كلما لقيتني:
(يا خي ما تكلم صحبك دا يحاول يعمل ليهو قطعة واطة .. الناس الما خدموا البلد زيو عملوها عربات وبيوت وارتاحوا)…
كانت تعرف منذ وقت طويل أن ابنها لا تجدي معه الرجاءات والنصائح.. فهو لن (يستفيد).. وسيواصل صامتاً وصامداً لعن المستفيدين والاستغفار.. لذا كانت تقول كلامها ذاك ثم ترسل ضحكتها القوية والطويلة المجلجلة .. الناقلة للرضى .. ومن كثرة ما قالت لي مثل هذا الكلام حتى تيقنت أنه من باب التأكيد على سلامة يد وموقف ابنها.. مقدمة إقراراً مجيدا لذمته..
رغم كل هذه الـ30 عاماً هي عمر سلطة مزعومة له.. لكنه ولكأنما الـ 30 مشت في عظامه فقط !!ناحلاً وغائر العينين.. متعبًا ومفلساً ومشتتاً.. بينما النية بيضاء والطوية والفأل الحسن حضوراً زاهياً مطمئناً…
فجأة مال علي بكل جسمه ثم همس في أذني:
(أنا عرفت مالي قلقان الليلة!!)..
ابتسمت مستفهماً ومستزيداً فقال:
(شايف البت اللابسة بنطلون ديك… الشابلة السيجارة القصبة ديك)…
قبل أن ألتفت أردف متحشرجاً وعلى ذات الهمس: (ما تتلفت عشان ما يلاحظوا… دي البت بتاعت فاس أبو كرشولا ذاااتها)!!.