أحداث الجنينة
لم تخرُج أسباب الصدام الدامي والأحداث المؤسفة التي اجتاحت مدينة الجنينة وبعض مناطق ولاية غرب دارفور، من دائرة ونطاق العوامل والأسباب التقليدية لصراعات دارفور القبلية، فهي احترابات تحدُث وتندلِع لأسباب واهية تتحرّك فيها العصبيات والولاءات الأدنى وتتهيّج المشاعر القبلية الجامحة بلا مُبرّر لتعصف بالسلام الأهلي وتُلقي بالجميع إلى الجحيم. ولا يمكن تبرير أحداث الجنينة بغير أنها صورة من صُوَر التخلّف الاجتماعي وعجز الدولة والمجتمع عن إيجاد صِيَغ أفضل للتعايُش والاندماج وتناسي الخلافات والصراع الذي يظل دائماً ناراً تحت الرماد تُعاوِد الاشتعال من جديد بمجرد إثارة غلوائها واستدعاء مُهيِّجاتها، وهذه سمة لازَمَت كل الحروب القِبَلية في السودان منذ أمد بعيد، عجزت العقليات السياسية المركزية وطبيعة المفاهيم الإدارية عن كبح جِماحها ولجْمِ أوارِها .
ظلّت التركيبةُ الاجتماعيةُ لولاية غرب دارفور تتميّز إيجاباً في صورتها العامة بتوافُق وتراضٍ لا بأس به في احترام الإدارات الأهلية ورموز القبائل لبعضها البعض على المستوى الرأسي وبدرجة أقل نسبياً في المدى الأفقي، وكل الصراعات القِبَلية التي حدَثت بين مُكوِّنات الولاية القِبَلية، كانت ترجع في الأساس لحوادث فردية وتثير العصبية العرقية وتنفخ فيها الروح وتتحرك القبائل بمنطق العقل وشعور الوجدان الجمعي. ولم تُفلِح كل المؤتمرات التي عُقِدَت للصلحِ بين القبائل على مرِّ العقود السابقة في وضع حلولٍ نهائية للصراعات القبلية الدامية، وتذهب كل التوصيات ومُقرّرات مؤتمرات الصلح أدراج الرياح ..
من الصعب بل ما يشبه المستحيل، أن نُصدّق ما يُشاع دائماً أن السياسة تلعب دورها في هذه الصراعات، بدليل أن أسبابها ودوافعها لا تمُتُّ للسياسة بِصِلةٍ، كما لا تستطيع السياسة إدارة مُحرّكات هذه الصراعات بسهولة.
وبالنظر إلى الأحداث الأليمة التي عَصَفَت بالسِّلمِ والأمنِ والاستقرار بغرب دارفور هذا الأسبوع، فإن المعالجة الأفضل هي الإسراع بالبحث عن حلول شاملة وليست ظرفية لمعالجة هذا الوضع المختل، فبسط هيبة وسلطان الدولة مهم للغاية لكنه وحده لن يوفّر السلام المستدام ولا ينزع بالكامل روح التعصُّب القبلي من النفوس، هناك تدابير مختلفة تنموية وخدمية تدخل في صميم التنمية الاقتصادية والاجتماعية وسياسات وبرامج إرشادية تثقيفية ودعوية وتدابير إدارية محكمة يجب أن تتوافق جميعاً وفي وقت واحد وفي مسارات متوازية لوأد الصراع القبلي، ففي المرحلة الأولى كما هو معروف، تُتَّخَذ الإجراءات الأمنية والعسكرية لحماية المواطنين وحقن دمائهم والقبض على المُتورِّطين ومُحاكمتهم محاكمات عادلة وحازمة، لكن التدابير الأخرى لترقية المجتمع عبر برامج التنمية الاجتماعية المختلفة ونشر التعليم وتوسيع مظلة الوعي الديني وتسهيل التواصُل المجتمعي عبر برامج مشتركة وتقوية دور الدولة في هذه المناطق هو أمر لازم وضروري ..
كثيرٌ من الناس يتحدثون عن غياب الإدارة الأهلية وضرورة تغيير قوانينها، لكنهم يتناسون في ذات الوقت أن الإدارة الأهلية التي غابت في فترات سابقة خلَّفت فراغاً لم تستطع هي نفسها تعويضه بعد أن عادت بصلاحياتها المعروفة، وهناك عدة عوامل أدّت إلى ضعف دور الإدارة الأهلية قد تجعل من لعبها الدور الأمثل أمراً مُعقَّداً وصعباً، مع تطور المجتمع المدني وتنامي دور القوى الحديثة التي وصلت المدن والأرياف، وإذا جرت محاولة لتطوير الإدارة الأهلية وتعديل وظائف النظام الأهلي ليكون أقرب إلى حركة المجتمع واحتياجاته ودعم هذا النظام بتشريعات جديدة مواكبة لحاجة الواقع الراهن، يُمكِن أن يحدُث فرقٌ في اتجاهات متنوعة …
الوفد الرسمي الكبير من المجلس السيادي برئاسة النائب الأول لرئيس مجلس السيادة ومعه رئيس الوزراء وبعض وزرائه، يجب أن يضع أقدامه على الطريق الصحيح لمعالجة هذا الوضع، أولاً بتأمين المواطنين من طرفي النزاع، والمُضي قُدماً في جمع السلاح، ثم وضع خطة شاملة تتم من خلالها إزالة المظاهر السالبة التي تؤدي إلى تنامي الغُبن الاجتماعي وهي معسكرات النازحين التي يحب أن تتحوّل إلى قرى أو أحياء مُخطّطة أو العودة الطوعية تحت حماية الدولة ووجودها الأمني الذي يبعث الطمأنينة للمواطنين، وفرض هيبة القانون بالمحاكمة الفورية لكل من ولغ وتورّط في هذه الأحداث، وعلى الوفد أيضاً البحث عن الطرُق المُثلى لاستعادة الدور المفقود للإدارة الأهلية ودعمها في ظل سلطة ولائية ومحلية قوية وقادرة على إنفاذ القانون، وإبعاد السياسة والتعليمات السياسية تماماً عن الولاية في هذا التوقيت، وإسناد الأمر للقوات النظامية التي وحدها تستطيع إنفاذ القانون بسُرعة دون إبطاء ..